حينما يأتي الحديث عن تغير المشهد الإعلامي في السنوات الأخيرة يستوقفنا هذا الظهور اللافت والمميز للسعوديين المستضافين في برامج البث المباشر، تحديداً البرامج الحوارية التي تهتم بمختلف قضايا وأحداث الشأن المحلي، والمتأمل جيداً لواقع الحضور الإعلامي لتلك المشاركات وتعاطي الشارع مع تلك البرامج، سيلاحظ بتأكيد أهم الفروقات التي طرأت في حجم تلك المشاركات وتنوعها.. "تغيّرنا" نعم بكل اقتدار واعتزاز يليق بحجم هذا التفاعل، سواءً كان مع التلفزيون أو مع الوسائل الإعلامية الأخرى، خاصةً في ظل وجود الرغبة الجادة عند الكثير للانضمام لقوائم المؤثرين في مجتمعاتهم، من خلال الظهور الإعلامي. "تغيّرنا" بداية على إصرارنا وبحثنا عن فرصة الظهور لإسماع أصواتنا، ووجهات نظرنا، وتطلعاتنا، وحتى همومنا، "تغيرنا" في أسلوب حوارنا، ووضوح أفكارنا، لم يعد للكاميرا رهبة تجعلنا كثيري الارتباك والالتفات والتلعثم بالحديث، فضلاً عن الخروج عن الموضوع الذي يدور حوله النقاش.. "تغيّرنا" وغيّرنا بحضورنا المتألق رتابة وجمود بعض تلك البرامج، لتحظى حالياً بأعلى نسب المشاهدة والمتابعة. سقف الحرية في البداية ذكر "د.إبراهيم السعيد" –وكيل كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أنّ الظهور الإعلامي لم يكن بهذه الكثافة التي نشاهدها اليوم؛ بسبب قلة الفرص لمحدودية وسائل الإعلام المتاحة، وزيادة نسبة الأمية، وانشغال الناس بأمور المعيشة، وانغلاق المجتمع، كم أنّه لم يكن هناك إلاّ قناة تلفزيونية حكومية وحيدة، وعدد من الصحف، إلى جانب الشعور بمحدودية سقف الحرية، ووجود الرقيب الذي يمرر ما يعتقد أنّه يتفق مع السياسة الإعلامية؛ مما قلّل من فرص المشاركة. وأضاف أنّ ارتفاع مستوى التأهيل العلمي عن السابق بشكل كبير ساهم في بروز متخصصين في مجالات مختلفة، بالإضافة إلى ارتفاع الحصيلة الثقافية؛ نتيجة الانفتاح الكبير على وسائل الإعلام، لافتاً إلى أنّ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ساهم في اكتشاف قدرات الكثير من الأشخاص؛ مما أتاح الفرصة للتواصل معهم واستقطابهم من قبل وسائل الإعلام المختلفة، إلى جانب استغلال المواطنين للفرص واكتساب مهارات متنوعة، خصوصاً في مجال مهارات الاتصال، كالإلقاء والحوار. وأشار إلى أنّ الدراسات أثبتت أنّ الجمهور السعودي نشط ومتفاعل مع وسائل الإعلام، وبالتالي تحرص على توجيه بثها للجمهور له، وتبحث عن استقطاب أكبر عدد من هذا الجمهور، وذلك لكسب نسب أكبر من الكعكة الإعلانية، مؤكّداً أنّ ارتفاع سقف الحرية عن السابق بشكل كبير ساهم في زيادة الجرأة والمشاركة دون خوف. طفرة تقنية ولفتت "طرفة عبدالرحمن" -إعلامية وباحثة اجتماعية- إلى أنّ جيل اليوم نشأ في ظروف ثقافية واجتماعية ونفسية مختلفة عن الجيل السابق، وانعكست على بيئته الأسرية، فأكسبته مجموعة من السمات، كالثقة، والاعتداد بالنفس، وأصبح الشاب السعودي يطل من شاشة التلفزيون متحدثاً بكل ثقة عن الموضوع الذي يخوض فيه، كما أنّ الطفرة التقنية مكنت الأفراد جميعاً من تزويد مخزونهم المعرفي والاندماج الثقافي والاجتماعي مع غيرهم، معتبرةً أنّ هذه العوامل أكسبت الفرد مزيداً من المعرفة وتوسيع المدارك، حتى أنّ هذا التغير طال مختلف الشرائح العمرية، وبالتالي سيختلف معه الجيل الذي نشأ في عهده. زيادة الوعي وأوضح "صبري باجسير" -معد برامج وتقارير تلفزيونية- أنّ الإعلام أصبح مؤثراً أكثر من أي وقت مضى، ويتم استثماره اليوم لتسليط الضوء على قضايا مهمة تتعلق بالإنسان في كل مجالات الحياة، مبيّناً أنّ ازدياد وعي المواطن بهذا الخيار جعله يقترب منه ويؤمن بقيمته أكثر، وبالتالي يشارك فيه بفعالية، حيث أنّ السنوات الأخيرة شهدت تحولاً كبيراً في تفهم الناس لمفهوم الإعلام، وأدواته، وتأثيره، خصوصاً مع ظهور البرامج التي تعتمد على نقل العفوية وتجنب الصورة التقليدية النمطية، لافتاً إلى أنّ الانفتاح، والتنوع، والمنافسة بين وسائل الإعلام، كلها عوامل أدت إلى زيادة المشاركات والتفاعل، حيث نجحت البرامج الجديدة في كسر النمطية المعتادة، واستطاعت ملامسة احتياج الإنسان ومناقشة قضاياه، وهمومه، ومعاناته، وإحضار المتخصصين للنقاش في هذه المواضيع. تغيير للأفضل وأكّد "عبدالرحمن الناصر" -ناقد أعلامي وكاتب فني- أنّ البرامج الإعلامية الخليجية والعربية تحرص وبشدة على استضافة السعوديين، واستقطابهم للتعقيب والتحليل على مختلف الأحداث الجارية، مبيّناً أنّ الكثير من الأسماء تألقت ولمعت في المشاركات الإعلامية، مضيفاً: "لا نبالغ إن قلنا أنّ القنوات الفضائية العربية أصبحت تميز السعودي ليكون المرشح الأول، وتستضيفه في كل المجالات"، معتبراً أنّ زيادة الوعي بأهمية وتأثير الوسيلة الإعلامية التلفازية وقدرتها على تغيير الواقع للأفضل، ساهم في كسر حاجز الخوف والرهبة من التلفزيون لدى المواطن العادي، وبذلك رأينا تعدد تلك المشاركات التي جاءت مشرفة ومتميزة، خاصةً على مستوى اللباقة في الحوار، والقدرة على التعبير المناسب عن الآراء والأفكار، بعدما كانت في السابق للأسف مدعاة للسخرية والتعليقات؛ لكثرة الخجل والارتباك، ولم تعد ترى المواطن يرفض المداخلات والتعليق صوتياً أو مرئياً. تكاثر القنوات ولفت "د.محمد عبدالله العوين" -أستاذ الأدب الحديث، والكاتب والناقد الصحفي- إلى أنّ انتشار البث الفضائي بعد عام 1415ه، وتيّسر التقاط القنوات التلفزيونية مدعاةً إلى قلق بعض المفكرين والآباء والمربين؛ خوفاً على الأجيال من تأثير ما تبثه بعض القنوات، من مادة برامجية قد لا تتفق مع منظومة القيم والأخلاق العربية الإسلامية، وهذا القلق ما زال قائماً عند الكثيرين؛ إذ إنّ المد الفضائي ازداد توغلاً واتساعاً، وتكاثرت القنوات، وسهل بثها، واستغلتها الحكومات، والتيارات، والمنظمات، والجماعات السياسية، والفكرية، والمؤسسات التجارية، وحتى العابثون، في الترويج والدعاية، والسعي إلى إيصال رسائلهم لأكبر طبقة من المتلقين، موضحاً أنّه مع وجود هذا القلق المزمن المصاحب دائماً لكثير مما يبث لم يكن الفضاء خلواً من فوائد ومنافع جمة، فإنّه لا يمكن أن نغفل النقلة الكبيرة التي أحدثها البث الفضائي للإنسان في المنطقة العربية على وجه الخصوص. وقال إنّ المتحدث في التلفزيون قبل البث الفضائي كان رسمياً، متحفظاً، مشدوداً، يحاسب نفسه قبل أن ينطقها، يبالغ في ظهوره بالزي الرسمي الكامل، وبالصورة الفكرية المثالية التي يأمل ألا يختلف فيها معه أحد، ولا يختلف هو فيها مع أحد، حتى علمنا البث الرسمي حين كانت قنواتنا واحدة فقط أنّ من يظهر في التلفزيون ويتحدث فيه هو ذلك المصطفى المختار من الناس، الذي يمتلك صفات ومواهب لا يمكن أن تتوافر لغيره من عامة الشعب، فهو ومن يماثله من يجيدون الإمساك بناصية الكلام، ومن يحسنون تنميق الألفاظ، وسياق المصطلحات، ومن يظهرون للجمهور بطريقة رسمية، مرتبة، مهذبة، ويكاد ظهور عامة الناس نادراً، فالشاشة للنخبة والصفوة من طبقة المثقفين والأكاديميين. وأضاف أنّه حين يظهر أحد العامة فإنّه يبدو في غاية الإحراج والتحفظ والقلق؛ خوفاً من أن يعبر عن فكرة غير مرضية، أو أن ينطق بعبارة ليست في محلها، فهو شديد المراقبة على نفسه خشية أن يتعرض للنقد أو اللائمة من مجتمعه أو محيطه الأسري، فلم يتعود أن ينطلق في الحدث بصورة عفوية طبيعية، وهي عادة ورثها وتربى عليها، ونُشِئ على أنّ الحديث أمام الناس في المجالس بحضرة من هو أكبر منه سناً أمر غير لائق وخارج على الآداب العامة، فعلى من يحضر مجلساً من الشبان أن يستمع فحسب إلى من يكبره سناً، ولا يشارك أو يدلي برؤيته أو يسمع المجلس صوته، فافتقدت أجيال عديدة الجرأة على المشاركة أمام الناس أو بحضرة "المايكرفون" أو الكاميرا. وأشار إلى أنّ البث الفضائي قد حطم تلك الرهبة الموروثة، وأسقط بعفويته وبساطته الحيطان العالية التي تعزل الجماهير عن الشاشات، وجسر الهوة القديمة الفاصلة بين البشر، وأقام علاقة حميمة لا بين "المايك" و"الكاميرا" والمتحدثين فحسب، بل بين الناس بعضهم مع بعض، فتعرفت طبقات من الجماهير على أخرى، وخلصت عفوية البث الفضائي المتحدثين من الشد النفسي العصبي والاستعداد المفرط في اللباس، وصفة الظهور المتكلفة في ملامح الوجه، وأزال وكسر الأنماط القديمة بما افتعله من برامج البساطة والطبيعية في برامج الواقع، فدخلت الكاميرا إلى جمهور من المتحدثين مختلفي المشارب والثقافات والمواهب، وتتبعت الكاميرا حركاتهم وسكناتهم في لهوهم وجدهم، وفي يقظتهم ومنامهم، وفي طبخهم وأكلهم وشربهم، وفي نقاشاتهم وحواراتهم، فكسرت هيبة الظهور، وقدمت للمتلقين دروساً في فنون البساطة والعفوية، وأقامت صلة عميقة نفسية وروحية وإنسانية بين الجماهير الواسعة الكبيرة خارج محيط الكاميرا والجمهور الصغير المسلط عليه الضوء، والمنقول عبر الكاميرات كما هو دون تكلف إلى الخارج. انكسرت الحواجز وكشف "د.العوين" أنّه كانت له تجربة مبكرة في هذا المجال، وعاصر بداية بث البرامج التلفزيونية المباشرة على الهواء، وقدم عشرات البرامج في الإذاعة والتلفزيون، وكان الفارق كبيراً بين زمن التسجيل المتحفظ، وزمن البث المباشر، فارق يلمسه المقدمون في أنفسهم، وفي ذوات الجماهير المشاركة، موضحاً انّه وزملاؤه وجدوا مشقة في بداية الأمر، بسبب عدم التعود، قم تآكلت مشاعر القلق، وانكسرت الحواجز، وانطلقت الألسن، وتبدلت الابتسامات والتعابير والكلمات المنمقة المصطنعة إلى حضور طبيعي تلقائي، يعبر عن اللحظة، ويوصل الفكرة، ويصل إلى القلب مباشرة دون حواجز. وأضاف: "الآن نجد المتحدث السعودي -سواء من النخبة أو من الجماهير- نجم القنوات والإذاعات والرقم واحد في معظم البرامج، ونرى أنّ الحلقات الساخنة المعبرة التي تثير أفكارا جريئة هي تلك التي تبث من داخل المملكة، والمتحدثون فيها أو أحدهم سعودي"، موضحاً أنّ الفضاء التلفزيوني المفتوح أسمع العالم أصواتنا، بعد أن كانت هامسة لا تكاد تبين، وانتهت إلى الأبد مرحلة الانطواء على الذات، وانهارت حيطان العزلة والقلق من التعبير عن المكنونات، وأخرج الإعلام الجديد بكل أطيافه إلى الوجود إنساناً آخر مختلفاً، لا يكاد يشبه الإنسان نفسه قبل عقدين من الزمان. د.محمد العوين د.إبراهيم السعيد صبري باجسير طرفة عبدالرحمن بكل ثقة اقتحم الشباب السعودي وسائل الإعلام الجديد وتميزوا فيها