الرحلة في أبسط صورها تجسيد خطابي لفعل السفر، الممارسة التي تقتضي الخروج من عالم الألفة إلى عالم الغرابة، فتجد الذات نفسها في مواجهة كيانات غيرية خارجة عن دائرة الألفة الدينية، أواللغوية، أوالعرقية. ولا جرم أنّ هذه الكيانات الغيرية تولّد لدى الرحالة رغبةً جامحةً في مساءلة الآخر و تمثيله عبر التركيز على ممارساته الحياتية، كتفاصيل الطعام والأثاث، وطقوس الاحتفال، ورمزية اللباس. وكذلك بإنتاج تنميطات كبرى تختزل الآخر في قوالب معينة. وهذا النوع من الممارسات يستند في تشكيله بشكل أساس إلى المعاينة المباشرة، وإلى مخزون الرحالة الثقافي أحياناً أخرى. على أننا نريد أن نشير بدءاً إلى أنّ صورة الآخر تخبرنا عن واقع الذات الممثِلة أكثر مما تخبرنا عن الآخر الممثَل. أي أن الحصيلة الصورية للآخر لا تعنى بالآخر فحسب، بل تعري الذات قبل أن تكشف الآخر، و تؤكد الهوية قبل أن تؤسس الاختلاف، عبر تناول مظاهر التباين بين قيم الذاتي والغيري، فتندفع الذات آلياً إلى المقارنة بينها وبين الآخر، فالاختلاف قرين المقارنة. و تنزع صور الآخر بطبيعة الحال إلى أن تكون مؤشراً على الدونية أوالفوقية؛ لأن علاقة الغيرية تخضع غالباً لمقولة الغالب والمغلوب كما هي عند ابن خلدون، فتهب الذات الآخر المغلوب سمات السلب، في مقابل تكريس صفات إيجابية للآخر الغالب أوالعكس. سردية الآخر تعدّ الرّحلة الفضاء الأمثل لبناء صورة الآخر. و في حقل الرحلات ثمة بديهية أنثربولوجية، وهي أنّ (صورة الآخر) تعدّ مكوّناً أساسياً للخطاب الرحلي و لازمة من لوازم تحققه. وإذا نحن سعينا إلى النظر في معنى الآخر بحصره في دائرة مخصوصة هي دائرة الخطاب الإثنوغرافي -وهي التي تستوعب الخطاب الرحلي أيضاً- أمكننا القول إنّ الآخر تعبير عام يتناول الحالات التي تتحقق فيها الاختلافات الدينية والعرقية واللغوية والثقافية، التي تشكل الأساس لهوية (النحن). وانطلاقاً من هذا الفهم فإنّ الخروج من حالة الثبات المكاني يستلزم خروجاً من حالة الثبات الثقافي أيضاً، فينكشف ما كان مضمراً ويُعرَف ما كان مجهولاً. يمكننا القول جازمين بأنّ كل نص رحلي هو قصة تحكي اكتشاف الآخرين! و لو حاولنا تحديد دلالة (الآخر) فلن يتأتّى لنا القبض على دلالة ثابتة؛ نظراً لأنه مفهوم نسبي؛ فالذات هي آخر بالنسبة إلى الآخر، والآخر يكون آخراً بالنسبة إلى وجهة نظر الذات (على حد تعبير تودوروف). كما أنّ انشغال الدراسات الإنسانية بصورة (الآخر) إنتاجاً أدبياً واستهلاكاً إعلامياً ومدارسةً نقديةً جعلت منه مفهوماً خصباً غير مستقر لتعدد سياقاته، و تفرع مداخله. متعة الاكتشاف تعد متعة الاكتشاف الموجّه الأول للرّحالة، فهو يتجول دائماً بحثاً عن مضادات معرفية وسلوكية غير معروفة بالنسبة إليه، فسليمان التاجر -الذي ارتحل إلى بلاد الهندوالصين في فترة مبكرة- يركز في أخباره على وصف مشاهد التعذيب، يقول مخبراً عن أحكام الصين في الجنايات: " وسبيلهم في القتل أن تُشد يدا من يريدون قتله شداً وثيقاً، ثم تطرح يداه في رأسه حتى يصيرا على عنقه، ثم تدخل رجله اليمنى فيما ينفذ من يده اليمنى، و رجله اليسرى فيما ينفذ من يده اليسرى فتصير قدماه جميعاً من ورائه و يتقبض و يبقى كالكرة لا حيلة له في نفسه، ويستغني عن ممسك يمسكه، وعند ذلك تزول عنقه عن مركبها و تتزايل خرزات ظهره عن بطنها، وتختلف وركاه ويتداخل بعضه في بعض ويضيق نفسه ويصير في حال لو ترك على ما هو به بعض ساعة لتلف، فإذا بلغ منه ضرب بخشبة لهم معروفة على مقاتله ضربات معروفة لا تتجاوز فليس دون نفسه شيء، ثم يدفع إلى من يأكله " وفي موضع آخر يسوق خبراً في غاية الفظاعة عن طريقة لعب النرد عند الهنود " فإذا غلب أحدهما صاحبه وضع يده على حجر وضرب القامر بالفأس أنملة المقمور فأبانها، ووضع المقمور يده في الدهن وهو في نهاية الحرارة فيكويها، ولا يقطعه ذاك عن المعاودة في اللعب، فربما افترقا وقد بطلت أناملهما جميعا ". وفي خضم الارتحال يمارس الرحالة اكتشافاً من نوعٍ آخر، وهو اكتشاف المجهول لتأكيد المعلوم، فالرحالة في خروجه محمّل بتصورٍ سابقٍ عن الآخر، تأسس هذا التصور نتيجة مكونات من أبرزها: الخطابات السابقة الواصفة لتلك الفضاءات، والمواقف التاريخية، والمتخيل الجمعي بوصفه ذاكرة جمعية ومستودعاً رمزياً من الصور والخطابات التي هي بمثابة الإطار المرجعي لهوية المجتمع الثقافية.. وقد يؤكدها الرحالة أو ينقضها في خطابه، فابن بطوطة على سبيل المثال يصف الطقس الديني (السُتي) الذي يقوم به بعض الهندوس متمثلاً في حرق المتوفى زوجها طوعاً أو كرهاً- وهو طقس شهير تردد الإخبار عنه في مدونات رحلية كثيرة يقول: " وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق (...) فكان ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم، أعاذنا الله منها. ولما وصلن إلى تلك القباب، نزلن إلى الصهريج، وانغمسن فيه، وجردن ما عليهن من ثياب وحلي، فتصدقن به. وأتيت كل واحدة منهن بثوب قطن خشن غير مخيط، فربط بعضه على وسطها، وبعضه على رأسها وكتفيها. والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج (...) ورمت بنفسها فيها. وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق، ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك، وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج. ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي تداركوني بالماء. فغسلوا وجهي وانصرفت ". وفي مقابل ذلك، قد يمارس الرحالة نقض متخيل سائد، وفي هذا السياق نستحضر خبر المغنيات في (طرب أباد) اللاتي يتوجهن بعد غنائهن إلى المساجد لأداء التراويح في شهر رمضان " وأخبرت أن النساء المغنيات لساكنات هنالك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويؤم بهن الأئمة، وعددهن كبير، وكذلك الرجال المغنون ". كما أنّ متلقي الرحلة يمارس اكتشافاً ذا بعدين؛ بعدٌ يتعلق باكتشاف الآخر، وبعدٌ يتعلق باكتشاف ذات الرحالة التي تظهر رغباتها المكبوتة، وواقعها المعيش عند تصويرها للآخر. فبعد أن أشاد الغرناطي بعدل ملوك الصين وأظهر انبهاره بهم قال: " فيا ليت ملوك المسلمين اقتدوا بمثل هذه السياسة الحسنة، فهم كانوا أحق بها، ولكن ذلك للحكمة الإلهية " و من ذلك خبر ابن بطوطة عن الروميات في (لاذق) الذي رواه بحيادية مطلقة تدفعنا إلى البحث عن مسوغها "وأهل هذه المدينة لا يغيرون المنكر، بل كذلك أهل هذا الإقليم كلهم وهم يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد وكل واحدة عليها وظيف لمالكها تؤديه له " إن الرحلة في هذا السياق تعد خطاب الاكتشاف بامتياز ! تمثيل الآخر بين الرؤية الذاتية والذاكرة الجمعية كل عملية ذهنية يمارسها الرحالة في تشكيل الآخر تندرج ضمن ما يسمى ب (التمثيل) ونعني به الاستغناء عن الشيء بصورته، أو نيابة الصورة الممثلة عن الشيء موضوع التمثيل، يتعين علينا أن نفصل بين مفهومين هما الآخر وصورة الآخر، وهذا الفصل لازم جداً، فالآخر كل ما ترى العين أنه مخالف لها أو مختلف عنها، وهو مفهوم يحيل إلى شخص واقعي جسداً وفكراً وأسلوباً معيشياً، أمّا صورة الآخر فهي اختراع وليست واقعاً بنيت بشكل غير واعٍ من المتخيل الجمعي والمعطيات التاريخية والمقولات الوصفية السابقة ورغبات الذات المكبوتة. و من شأن هذا الفصل أن يقودنا إلى استنتاجين: أولهما أنّ صورة الآخر زائفة وتعدل عن الحيادية غالباً – وهذا لا ينفي قدرة الرحالة على التخلص من حمولته الثقافية عند معانيته للآخر فقد يخلخل الرحالة صورة قارة عن الآخر إما بالسلب أوالإيجاب و يخترع ميثاً جديداً - وثانيهما أنّ صورة الآخر ذات بعدين، بعد جماعي ينهل من المتخيل الجمعي الذي يؤطر ذهنية الثقافة التي ينتسب إليها الرحالة، وبعد ذاتي يفضح رغباته المكبوتة أو يكشف عن جوانب ضعفه التي تتجلى عن طريق بناء الآخر بناء سلبياً لتعويض الذات شعورها بالنقص أو بناء إيجابياً يكشف عن نواقصها. تنميط الآخر: القولبة وعيًا زائفاً إذا كان التمثيل يتحقق في قدرة الذات على الاستغناء عن الأشياء بصورتها، و هوالإستراتيجية الأكثر شيوعاً في إنتاج المعرفة، فإنّه يزداد خصوبة مهيئاً لمستوى متطور يتجلى في ممارس التنميط (Stereotype) فما يحدث في التنميط هو الاستعاضة عن الآخر بصورته، تماماً كما التمثيل، لولا أنّ التنميط يغيب الآخر فرداً في النسق الثقافي لثقافة ما، و ينظر إليه بوصفه كتلة بشرية تمارس السلوكيات ذاتها وفق منطق التعميم، الذي يحصر الآخر في قوالب جاهزة على إثرها يكون الحكم عليه. و لا يخرج الخطاب الرحلي عن التنميط ورهاناته المتحيزة، لذلك تنطلق الذات في تصويرها للآخر من دائرة الحسي اليومي مستندة في حكمها على دائرة المتخيل. ونتيجة لذلك يتضارب منطق الواقع مع منطق الصورة التي تستقر في قوالب جامدة لا تتغير غالباً. وعليه، فإن الآخر مشوه بالضرورة لآليته وجموده. فعلى سبيل المثال يمارس أبو حامد الغرناطي عنفاً تخييلياً عند تصوير (الأسود) بوصفه مغايراً لونياً هو للحيوانية أقرب منه إلى الإنسانية ! يقول: "وأشرهم قوقو، قصار الأعناق فطس الأنوف، حمر العيون، كأن شعورهم حبّ الفلفل، وروائحهم كريهة كالقرون المحروقة" ونجد التنميط السالب ذاته في مدونات رحلية أخرى فها هو سليمان التاجر يصف قوم أندامان قائلا: "قوم من السودان عراة، إذا وجدوا الإنسان من غير بلادهم علقوه منكسا وقطعوه وأكلوه نيا، وعدد هؤلاء كثير، وهم في جزيرة واحدة، وليس لهم ملك " ولا يفهم بهذا أن ممارسة التنميط أوالقولبة سالبة بالضرورة؛ فقد يصور الرحالة الفضاء الآخر تصويراً إيجابياً مكرساً لكل ما هو موجب، إلا أنه تصوير مجانب للواقع بالضرورة، وعلى حظ كبير من التحيز. وعليه، فإن الخطاب الرحلي الذي يحضر في المنجز التراثي بوصفه شهادة توثيقية و تجربة تأخذ لبوساً واقعياً ما هو إلا خطاب موهم بالواقعية، وهو بهذا شبيه بخزانٍ مكتظٍ بإسهامات المعرفة السابقة، والمتخيل الجمعي والمعطيات التاريخية، والرغبات الفردية المكبوتة.