أزالت رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي أنجيلا ميركل الشكوك حول منصب المستشارية الألمانية، معلنة أن المحادثات التي أجراها حزبها مع الاشتراكيين الديمقراطيين بزعامة غيرهارد شرودر تمخضت عن إعطائه الحق في تعيين المستشار الألماني الجديد. وبهذا تكون ميركل قد ذللت آخر العقبات أمام تسلمها لمنصب المستشار للسنوات الأربع القادمة، وذلك بعد محادثات شاقة عقبت إجراء الانتخابات البرلمانية في الثامن عشر من أيلول سبتمبر الماضي. وتلقت ميركل درساً بليغاً من مربيها السياسي المستشار السابق هلموت كول ساعدها على شق طريقها وسط المناوئين لها. وكانت ميركل في شبابها عضواً ناشطا في منظمة شباب ستالين، وتخصصت أثناء دراستها الجامعية في علم الفيزياء بجامعة ليبتزغ وحازت درجة الدكتوراه في العام 1986 .وخلال سنوات قليلة صعدت بسرعة الصاروخ من كونها عالمة فيزيائية مغمورة تعمل في أحد مختبرات برلينالشرقية إلى سيدة أصبحت حديث الساعة في أوروبا. وقد اعتاد المستشار كول الذي أتى بميركل إلى مجلس وزرائه في العام 1991 أن يخاطبها بشكل أبوي مستخدماً كلمة «ابنتي». وبعد توليها قيادة الحزب المسيحي الديمقراطي غالبا ما وقفت ميركل وقفة صحيحة في الوقت الملائم كزعيمة، وكثيرا ما برعت في مناورة معارضيها. كما قامت في العام 2000 بإخراج حزبها من فضيحة التبرعات التي طاولت كل من رئيسه السابق كول وخلفه فولفغانغ شويبله. وكانت ميركل أول مسؤول رفيع المستوى بالحزب يهاجم المستشار السابق على إثر فضيحة التبرعات السرية. بيد أن تولي ميركل منصب المستشارية قد تحقق بثمن باهظ دفعه الحزب المسيحي الديمقراطي، ففي المفاوضات الشاقة التي جرت مع منافسيه السياسيين تخلى الحزب عن عدد من دوائر الاختصاص التي يتحدد فيها المستقبل الاجتماعي للبلاد. وجاء تقسيم دوائر الاختصاص كتعبير عن عدم الثقة بين الأطراف المتنافسة، وقد لا يمثل هذا أمراً سيئاً ولكنه لا يسمح لأحد بالقيام بخطوات واتخاذ قرارات بمعزل عن الآخر. وقد يكون من الضرورة البحث عن حل وسط في كل قرار كبير يراد اعتماده. والخطورة كامنة في ألا يتحرك هذا الائتلاف، وإذا ما تحرك فقد يأتي ذلك على حساب الصالح العام، دون أن تكون ميركل قادرة على تغيير شيء. وهنا ستكون ميركل مقدمة برامج أكثر منها حاكمة، وهذا ما أظهرته أولى مضامين مباحثات الائتلاف، إذ اختفت منها جدية الإصلاح التي نشرتها ميركل قبل عامين وقادتها بصبر في المعركة الانتخابية. والأصح، فان الحكومة الجديدة ستكون اشتراكية ديموقراطية أكثر مما توقعته ميركل وحزبها. بيد أن شيئا واحد سيبقى ثابتا، وهو أن المستشارة ستكون مسؤولة عن إخفاقات الحكومة. وسيحصل الحزب المسيحي الديمقراطي على منصب المستشار وست وزارات، في حين يحصل الاشتراكيون الديمقراطيون على ثماني حقائب وزارية. ويقضي الاتفاق بأن يتولى أعضاء من الحزب الاشتراكي الديموقراطي وزارات الخارجية والمالية والعدل والعمل والبيئة والتعاون والصحة والمواصلات.أما الحزب المسيحي الديمقراطي فسيحصل إضافة إلى المستشارية على وزارة الدولة لشؤون المستشارية، إضافة إلى الاقتصاد والداخلية والدفاع والزراعة والتأهيل والأسرة. وعلى صعيد السياسة الخارجية، قالت ميركل إنها لا تتوقع حدوث تغييرات جذرية في الخيارات الألمانية . أما بخصوص العلاقات مع واشنطن، التي شهدت في السنوات الماضية فتورا واضحا، فقد قالت ميركل إن المصالح الألمانية «تتطلب وجود روابط جيدة مع الولاياتالمتحدة دون إهمال العلاقات الثنائية مع موسكو.» وأن بلادها «معنية بوجود علاقات جيدة ومبنية على الثقة مع المسؤولين الأميركيين.» وليس ثمة اعتراض لدى الحزبين على وضع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. بيد أن ميركل لو كانت قبل ثلاث سنوات في منصب المستشار بدلا من شرودر لربما كانت قوات الجيش الألماني (البوندسفير) منتشرة اليوم على ضفاف دجلة والفرات، على الرغم من أن ميركل تقول الآن أنها لا تدعم فكرة إرسال قوات ألمانية إلى العراق. على صعيد الخيارات الداخلية الكبرى، يلتزم كل من الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب المسيحي الديموقراطي بِ «اقتصاد السوق الاجتماعي» ويتفقان على العناصر الرئيسية لإدارة اقتصاد الشركات، وعلى صيانة مكتسبات دولة الرفاهية الاجتماعية. بيد أن الحزب الاشتراكي الديموقراطي بات يستخدم تعبير «اجتماعي» على نحو أكثر تأكيدا مما كان يفعل في السنوات السبع الماضية. أما ميركل، فقد ربطت برنامجها بالأفكار الطموحة لشخص من خارج حزبها هو قاضي المحكمة الدستورية السابق بول كريتشوف، ساعية بذلك إلى تبسيط النظام الضريبي على نحو جذري. ولا تبتعد أهداف الدولة الاجتماعية كثيرا عن الخطوط الرئيسية المتصلة بتحقيق العدالة، والمتمثلة في فرص العمل، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، والنمو، وتطوير البحث العلمي. لكن السياسات العملية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف ليست موضع إجماع وطني، ذلك لأن إصلاح دولة الرفاهية الاجتماعية وسوق العمل يعني المزيد من المنافسة، وهو ما يخيف العديد من المواطنين. لقد بات على الدولة الاضطلاع بدور أكبر فيما يتصل بتعزيز مكاسب الإنتاجية، وتشجيع النمو الاقتصادي، وتشغيل العمالة، مع تخصيص نسب عالية للإنفاق على رأس المال البشري والبحث العلمي، ولا بد أن يكون الإنفاق على مجالات البحث أكثر فعالية عن طريق التخلي عن الإدارة البيروقراطية، ومن خلال فتح كافة أرصدة البحث الوطني للمنافسة . وتزداد الشكوك قوة في ألمانيا وأوروبا عامة بين الذين يرون أن الأهداف العليا لأوروبا الاجتماعية لم تتحقق على نحو وافٍ بسبب الهيمنة السياسية لليمين: السيطرة على ثماني عشرة حكومة من الحكومات الخمس وعشرين، وهو نفس عدد المفوضين الأوروبيين، كما يمثل أغلبية في البرلمان الأوروبي. والانتخابات الخلافية الألمانية، حالها حال الاستبيان الفرنسي حول الدستور الأوروبي في أيار مايو الماضي، لم تعكس الانشقاقات الأيديولوجية حول أوروبا فحسب، بل كذلك حول أسس الاقتصاد والمجتمع. فالانتقاد الموجه إلى الاتحاد الأوروبي بأنه «ليس اجتماعياً بما فيه الكفاية» ليس سوى فكرة تصوّر الاتحاد على أنه شرك أجبر أعضاءه على الانحناء أمام أنظمة السوق الحتمية، ومنع القادة الوطنيين من تحقيق أهداف الدولة الاجتماعية. في التجربة الفرنسية القريبة، وضع الاشتراكيون أنفسهم إلى اليسار من شركائهم في أوروبا، حيث منحوا الدولة دوراً اقتصادياً رئيسياً في أعقاب عمليات التأميم الضخمة التي حدثت في العام 1981 بعد انتخاب فرانسوا ميتران رئيساً لفرنسا للمرة الأولى. ولاحقا كافح الحزب الاشتراكي الفرنسي ضد «الطريق الثالث» الذي نادى به توني بلير و«المركز الجديد في نهاية التسعينيات» الذي نادى به جيرهارد شرودر . بيد أن الحزب فضل في العام 1983 اختيار أوروبا على الالتزام بالمبادئ الاشتراكية، وذلك حين قرر ميتران البقاء داخل نظام النقد الأوروبي. لكن الحزب لم يلجأ قط إلى مناقشة أو تنظير هذا الاختيار، بل لقد قبل ببساطة زعم رئيس الوزراء السابق ليونيد جوسبان بان الاستقرار والتحديث المالي الناتجين عن هذا القرار لا يمثلان سوى «فترة فاصلة».وقد انتهت هذه الفترة الفاصلة بالاقتراع الذي جرى في كانون الأول ديسمبر الماضي على مسودة الدستور الأوروبي. في التجربة البريطانية، اتجه البريطانيون عندما واجهوا مشكلة البطالة أوائل ثمانينات القرن الماضي للاستفادة من التجربة الأميركية. وعلى هذا النحو اتخذت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر إجراءات راديكالية قلّصت بموجبها المساعدات الاجتماعية وتعويضات العاطلين عن العمل. كما قامت بالحد من سلطة البيروقراطية من خلال تسهيل قوانين أنظمة الاستثمار وجعلها أكثر ليبرالية تجاه المستثمرين ورجال الأعمال. ويعتقد أن تحجيم سلطة البيروقراطية من أهم الأسباب التي ساعدت بريطانيا على النجاح في تخفيض نسبة العاطلين عن العمل إلى النصف. كما يرى بعض الاقتصاديين الأوروبيين أن الإصلاحات التي قامت بها ألمانيا مؤخراً في إطار ما يُسمى «هارتس 4» تشبه في بعض جوانبها التجربة البريطانية. بيد أن المشكلة تكمن في أنها جاءت متأخرة نسبيا. ومن أهم أسباب النجاح الأخرى للبريطانيين تركيزهم على قطاع الخدمات، الذي ينمو بوتيرة سريعة، حيث استطاعوا من خلاله خلق مئات الآلاف من فرص العمل الجديدة. وعلى خلاف ذلك ركز الألمان على قطاع البناء، الذي تضخم بشكل يفوق حاجة السوق مما تسبب في خسائر كبيرة ساهمت في تراجع أداء القطاعات الأخرى. وفي المجمل، فإن دولة الرفاه الاجتماعي، أو لنقل دولة الإعانات، التي طالما تصاحبت بحركة إصلاح ديمقراطية اجتماعية واسعة، قد وصلت إلى نهاية المطاف لمعاناتها من عجز كبير في الميزانية العامة ومستويات ضرائب غير مدعومة. وبشكل موازٍ عانت الحركة الاجتماعية، التي كانت مدعومة سابقا من قبل دولة الإعانات، من انعكاسات سلبية حادة، إذ باتت الأسواق المعولمة تبشر بالمزيد من عدم المساواة والفقر وعدم الأمان الاجتماعي، أكثر بكثير مما تعد بمنافع على صعيد النمو الاقتصادي. واليوم فإن الليبراليين الجدد في أوروبا يرون بان تخفيضات الضرائب على العمل بمقدورها الحد من مشكلة البطالة. لكن فعالية تخفيضات الضرائب هذه سوف تكون إلى حد كبير، إن لم يكن على نحو كامل، عابرة سريعة الزوال، وخاصة إذا ما تم الالتزام بشبكة الأمان الاجتماعي، التي تمثل عصب الدولة الاجتماعية. فخلال عقدين من الزمن قد تزحف معدلات البطالة المرتفعة عائدة من جديد. إن الآمال العريضة التي أثارتها قضية تخفيض الضرائب كان من شأنها أن تحول انتباه صناع القرار بعيداً عن إصلاحات جوهرية ضرورية من شانها تحقيق مستويات عالية من الإبداع، وخلق فرص عمل وفيرة، والوصول إلى معدلات إنتاجية عالية. والحقيقة إن الاقتصاد لا يقوم على البينة فيما يتصل باختيار النموذج النظري. وغالباً ما تتخذ المبادرات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية دون إجراء كل الاختبارات التجريبية المسبقة التي كان ينبغي أن تتم. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك مجموعة قرارات الاقتصاد الشامل التي اتخذت فيما بعد الحرب على يد أتباع كينز الراديكاليين. لقد استند الراديكاليون إلى نظرية كينز التي لم تخضع للاختبار، والتي كانت تقول إن البطالة تعتمد على «الطلب المؤثر» نسبة إلى «الأجر النقدي»، لكن سياستهم تجاهلت الجزء المتصل بالأجور وسعت إلى تثبيت الطلب عند مستوى مرتفع إلى الحد الذي يسمح بإيجاد فرص عمل «للجميع». وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي، راهن النقديون (المؤمنون بتأثير الكم المعروض من النقد على تنظيم الاقتصاد) على أن الزيادة المؤقتة المتواضعة في معدلات البطالة من شأنها العمل على كبح التضخم المالي الذي كان قد أخذ يزحف بسرعة على الغرب الصناعي، وأن تكاليف العودة إلى الاستقرار الفعّال للأسعار سوف يتم تقديرها على نحو دقيق اعتماداً على أحداث الماضي. و لكن إذا استثنينا بريطانيا، فان معدلات البطالة قد ظلت في ارتفاع طوال ربع القرن الماضي في أوروبا، بسبب إحكام السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة بغرض مكافحة التضخم. فبعد القضاء على التضخم لم تنخفض معدلات البطالة، أو لم تنخفض بنسب كافية. ومع أن معدلات البطالة لم تبلغ المستويات التي بلغتها أثناء فترة الكساد العظمى في عشرينيات القرن الماضي . بيد ان الحاجة إلى الإصلاح النقدي تبدو على الرغم من ذلك بديهية أكثر من أي وقت مضى، فمع مسؤولية العوامل البنيوية عن 75-80٪ من إجمالي العجز في ميزانية منطقة اليورو في الأعوام الأخيرة، فإن سقف العجز في الميزانيات المحلية، والذي حددته المعاهدة بِ 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي قد تعرض لخروقات متكررة منذ العام 2002. ولقد التزمت الدول الأعضاء الأصغر حجما، وأبرزها فنلندا وأيرلندا (علاوة على أسبانيا)، والدولتان اللتان لا تتبعان منطقة اليورو، الدنمرك والسويد، بمبدأ الموازنة المالية أو بمقدار قليل من الفائض، على الرغم من تضاؤل هذا الفائض.أما الدول الأعضاء الأكبر بما فيها بريطانيا وفرنساوألمانيا فقد كانت عاجزة عن أو كارهة للتحرك طبقاً للقواعد. والحقيقة أن فرنساوألمانيا قد أفلتتا بالكاد من العقوبات المالية في تشرين الثاني نوفمبر من العام 2003 بسبب مخالفاتهما للمعاهدة. وعلى الرغم من أن محكمة العدل الأوروبية قد أعلنت فيما بعد عن بطلان هذا القرار إلا أن المأزق ما زال قائما. وعلى هذا فقد أصبح من الضروري إما تغيير السلوكيات المالية أو القواعد التي قامت عليها معاهدة الاستقرار والنمو في الاتحاد الأوروبي. إن المشكلة الأساسية التي تحيط بالمعاهدة هي أنها لابد وأن تخلق التوازن بين هدفين متناقضين: حيث يتعين عليها أن تحكم قبضتها على الدين الزائد المتراكم، وأن تمنح في الوقت نفسه الحكومات المزيد من حرية الحركة لكي تتمكن من اعتماد الإصلاحات البنيوية الضرورية واسترداد قدرة أوروبا على المنافسة. وبوضعها الحالي، فإن معاهدة الاستقرار والنمو تمثل عقبة تقف في وجه تحقيق مثل هذه الإصلاحات. وفي حين تهدر أوروبا طاقاتها السياسية والمالية من أجل الوفاء بالمتطلبات الملحة للميزانية، فإن تقدما يذكر لا يتحقق على صعيد التعامل مع التحديات الأساسية الحقيقية، مثل الأعباء الضريبية الثقيلة وذبول المنافسة. ومن وجهة النظر الاقتصادية، هدفت استراتيجية لشبونة إلى تحويل أوروبا إلى قوة قادرة على المنافسة على قدم المساواة مع الولاياتالمتحدة والدول الآسيوية الكبرى في المستقبل القريب. ولكن مما يبدو أن هذا الهدف لا يساهم في صياغة هوية أوروبية، كما فعل اليورو. كما ترى عدة دول داخل أوروبا أن السعي إلى «القوة» لا يشكل هدفاً سياسياً قويما.