ناقش مجلس الشورى مؤخراً تقرير ديوان المظالم للعام المالي 1435/1434ه وحفلت مناقشة المجلس بالكثير من الجوانب التي استوقفتني لاعتبارات تخصصي حالياً، وخبرتي وارتباطي الوظيفي السابق بديوان المظالم، ولاطلاعي على الكثير مما يدور داخل الديوان من خلال ما أسمعه من الزملاء القضاة الذين لم تنقطع صلتي بهم بعد تركي العمل في الديوان. ولأهمية هذه الجوانب التي اشتملت عليها مناقشة المجلس كان لا بد من الوقوف معها والتعليق عليها وذلك فيما يلي: أولاً: أوصت لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية في المجلس بالمبادرة بإقرار المبادئ القضائية لديوان المظالم؛ وهذه المسألة تعد من أهم المسائل ذات الأثر الواضح على استقرار وجودة أحكام القضاء الإداري، وتأتي في الوقت الذي اتجهت الإرادة الملكية الكريمة نحو البدء الفعلي في تدوين الأحكام الفقهية تدويناً يمكن أن يكون اللبنة الأولى للتقنين والإلزام بهذه الأحكام في محاكم وزارة العدل. كلنا متفقون على أنه لم يشهد ديوان المظالم منذ سنوات طويلة جديةً وحرصاً واهتماماً بمعالجة مشكلة تأخر وبطء إنجاز القضايا، كما يشهده في هذه المرحلة التي جعل فيها معالي رئيس الديوان هذا الموضوع أولى أولوياته، فاتخذ الكثير جداً من القرارات، وأقر العديد من الإجراءات الفاعلة التي أصبح أثرها ملموساً في سرعة الفصل في القضايا وفي هذا السبيل فإن أبرز إشكالية تواجه استقرار وإقرار المبادئ القضائية في ديوان المظالم، تعدد محاكم الاستئناف الإدارية، ما قد يؤدي لاختلافها فيما بينها في الأحكام، وهذا ما لاحظت أنه محط اهتمام كبير من معالي رئيس ديوان المظالم الشيخ عبدالعزيز النصار الذي تبنى فكرة عقد اجتماعات دورية لقضاة الاستئناف على مستوى الديوان، يناقشون فيها القضايا المتشابهة، ويسعون للاتفاق فيها على مبادئ واحدة، وكذلك تكثيف عقد اجتماعات مصغرة تجمع قضاة الاستئناف في فروع محاكم الاستئناف الإدارية لكل اختصاص على حدة، لمناقشة مسألة محددة والخروج فيها برؤية يتم الاتفاق عليها والإلزام بها، ما يكون له أحسن الأثر على ضبط الأحكام القضائية وتوحيدها. ثانياً: تناولت توصية لجنة الشورى أيضاً سرعة استكمال إجراءات تنفيذ مشاريع المباني لمحاكم الديوان، وحقيقةً فكم يؤلمني في هذا الصدد أن ديوان المظالم منذ تأسيسه وإلى اليوم لا يمتلك أي مبنى لمحاكمه، وكل مباني المحاكم وقبلها المقر الرئيسي للديوان مستأجرة، وما زالت جهود بناء محاكم للديوان تراوح مكانها منذ سنوات طويلة، رغم الدعم السخي الذي جاء به مشروع خادم الحرمين الشريفين " أيده الله " لتطوير مرفق القضاء، ورغم ما تنعم به المملكة من رخاء اقتصادي وطفرة غير مسبوقة طيلة السنوات الماضية. ثالثاً: تضمنت مناقشة المجلس أيضاً المطالبة بدعم ديوان المظالم بوظائف إدارية عليا، لمواجهة الزيادة الضخمة في القضايا، بالإضافة إلى التوسع الكبير في افتتاح فروع المحاكم الإدارية، حتى لا يضطر الديوان إلى تكليف القضاة بأعمال إدارية لتعويض هذا النقص. وقد كان لي مقال سابق في هذه الصحيفة بعنوان (مشيخة الإدارات.. ألا يكفي نقص القضاة؟) تناولت فيه تحديداً هذه المشكلة، إذ نجد نسبةً من خيرة القضاة يكلفون بأعمال إدارية إما مفرغين لها، وإما بالتزامن مع أعمالهم القضائية، وهذه مشكلة تستحق الحل، ويجب المبادرة في تزويد ديوان المظالم بالوظائف الإدارية العليا، التي تمكنه من استقطاب الخبرات والكفاءات المؤهلة لسد هذا النقص، حتى يعود القضاة إلى مزاولة عملهم القضائي الأصيل. رابعاً: أشار أحد أعضاء المجلس إلى مشكلة طول فترة التقاضي وطالب ببحث سبل حلها، ولعلي هنا أختلف كثيراً مع هذه الملاحظة، من واقع تجربتي وخبرتي الحالية في الترافع أمام الديوان ويشاركني الرأي الكثير من الزملاء المحامين الذين تحدثت معهم في ذلك، وكلنا متفقون على أنه لم يشهد ديوان المظالم منذ سنوات طويلة جديةً وحرصاً واهتماماً بمعالجة مشكلة تأخر وبطء إنجاز القضايا، كما يشهده في هذه المرحلة التي جعل فيها معالي رئيس الديوان هذا الموضوع أولى أولوياته، فاتخذ الكثير جداً من القرارات، وأقر العديد من الإجراءات الفاعلة التي أصبح أثرها ملموساً في سرعة الفصل في القضايا. بل إني – وقبل مناقشة الشورى الأخيرة – كتبت مقالاً بعنوان (بين العدالة البطيئة أو الظلم الناجز) أبديت فيه تخوفي من السرعة الملحوظة والحرص الشديد على إنجاز القضايا في أن يكون ذلك على حساب جودة الأحكام. بل إن بعض القرارات التي اتخذها معالي رئيس ديوان المظالم لمعالجة هذه المشكلة تتسم بكونها قرارات جريئة، عميقة الأثر، وغير تقليدية، عالجت وبشكل حاسم وحازم مشكلة تأخر إنجاز القضايا. فأعتقد أن مشكلة التأخر في إنجاز القضايا أوشكت مؤخراً وفي عهد معالي رئيس الديوان أن تصبح شيئاً من حديث الماضي – بفضل الله -. خامساً: في ملاحظة غايةً في العمق والأهمية، طالبت إحدى عضوات المجلس بدراسة طبيعة القضايا التي ترفع على الأجهزة الحكومية، لرصد الخلل والعمل على تلافيه عبر آليات عمل تقطع الطريق على الاجتهادات الإدارية الشخصية، التي تكلف الدولة ملايين الريالات على شكل تعويضات. وأنا هنا أشكر بعمق، وأحيي بصوت عال أستاذتنا التي طرحت هذه الملاحظة، فهي في الحقيقة قضية شائكة، ومسألة تستدعي الوقوف الطويل معها، ولو رجع القارئ الكريم إلى أرشيف مقالاتي في هذه الصحيفة لرأى أن هذه القضية تمثل في مقالاتي هماً واضحاً، وموضوعاً أساسيا. فكثيراً ما طالبت بأن يعاد النظر في تعنت بعض مسؤولي الجهات الحكومية الذي يقودهم إلى تجاهل الأنظمة، وإصدار القرارات التي تنبع من اجتهادات شخصية، أو تعصب للرأي، دون التحقق من مدى سلامتها قانونياً، ما يؤدي للحكم على الإدارة بالتعويضات بمبالغ طائلة تصل لمليارات الريالات، بل حتى إشغال القضاء الإداري بمئات القضايا والنزاعات التي لولا مثل هذه الاجتهادات الخاطئة أو حتى الأخطاء العمدية لكنا في غنىً عن إشغال القضاء، وعن استنزاف الميزانية بالتعويضات. طالبت في مقال سابق بتفعيل دور الإدارات القانونية في الجهات الحكومية واستشارة المسؤول لها في أي قرار قبل إصداره، بدلاً عن حصر دورها في الدفاع عن الإدارة بعد وقوع الفأس في الرأس. وفي مقال آخر تساءلت: (أحكام التعويض ضد خزانة الدولة.. من المسؤول؟) وطالبت بضرورة إحالة كل مسؤول أو موظف يترتب على مخالفته النظام أحكام بالتعويض إلى المساءلة التأديبية، بل حتى الجنائية، تحت توصيف (تبديد المال العام) الذي يعتبر جريمةً يعاقب عليها. وإني أطالب هيئة مكافحة الفساد بالغوص في أعماق أحكام ديوان المظالم لتتبع أنواع الفساد الإداري الذي أشغل القضاء الإداري، وأثقل كاهل الدولة بالتعويضات التي كان بالإمكان تلافيها، لتقوم هيئة (نزاهة) بدورها في الحد من هذه المشكلة. وختاماً أؤكد – ومن واقع تجارب ومتابعة عن كثب – أن ديوان المظالم اليوم يشهد نقلةً تطويريةً كبرى وغير مسبوقة، تسير بحكمة ودقة، بلا ضجيج، ولا فرقعات إعلامية، وبنتائج متوالية سريعة، نلحظ فيها التغيير في كل يوم عن اليوم الذي سبقه. ولئن كنت منذ أولى لحظات تعيين معالي رئيس ديوان المظالم الشيخ عبدالعزيز النصار في مقالي بعنوان (رسالة إلى معالي رئيس ديوان المظالم) قلت: (.. أنه لا يقف الأمر عند صدور الأمر الملكي الكريم بتعيين وزير في منصبه، وإنما يعتبر ذلك نقطة البداية نحو متابعة تقويمه وملاحظة أدائه وما يتسم به من نجاح أو إخفاق)؛ فإني أؤكد اليوم أن ما تحقق من حسن أداء، وإنجازات حقيقية، يبعث على الأمل كثيراً، بمستقبل أفضل وأكثر إشراقاً للقضاء الإداري – بإذن الله -. وفق الله ديوان المظالم لحراسة المشروعية، وأعان رئاسته وقضاته على براءة الذمة، ولئن كان خادم الحرمين الشريفين "أيده الله" قال يوماً للمسؤولين: "من ذمتي في ذمتكم "؛ فإنكم يا قضاة ديوان المظالم أنتم الحراس والمراقبون على هؤلاء المسؤولين، هل رعوا هذه الأمانة، ووفوا بهذا العهد لملكهم – حفظه الله – أم لا؟. والحمد لله أولاً وآخرا. * القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً لمراسلة الكاتب: [email protected]