ليس محض صدفة تواجد عدد لا بأس به من الأدباء الأكراد في العالم العربي والعالم بشرقه وغربه. فالشعب الكردي هو شعب شاء القدر أن يكون مهاجرا بين جهات العالم لأنه صاحب أرض لم تلحظها التقسيمات الإستعمارية قبل قرن وأيضا وجوده بين حضارات كبرى أكلت الأرض الكردية ولكنها لم تستطع أن تبيد الشعب. فالشعب الكردي، صاحب ثقافة تتصارع مع كل الثقافات التي تجاوره خاصة الفارسية والتركية والقوقازية كلما وصلنا الى الشمال. الشاعرة الكردية فينوس فايق واحدة من الأصوات المتميزة في الشعر الكردي، وهي الى جانب عدد كبير من الشاعرات الكرديات صنعت لبلادها صوتا ثقافيا صاخبا في هولندا حيث تقيم وفي معظم أوروبا حيث يتوسع نشاط فينوس فايق الى إقامة نشاطات ثقافية للتعريف بالأدب الكردي وبشعبها وبلادها. ٭ بوصفك شاعرة كردية ماذا يمثل المكان كوطن بالنسبة اليك؟ - إذا كان الوطن كمفهوم له علاقة بمفردة المكان أو مكان معين، فإن الوطن هناك، وذلك يعني لي الكثير، البيت، الحي، المدينة، حتى الأشجار التي على جانبي الطريق المؤدي إلى المدرسة، والساحة الخلفية التي كان الصبيان يلعبون فيها كرة القدم . لكنها صورة الوطن المسكون بالرعب في تلك الحقبة الرهيبة، الوطن الملطخ بمعاني المقاومة والإختباء والكفاح المسلح، والآن حينما أزور الوطن (وقد زرتها بالمناسبة مرة واحدة فقط منذ تركت كردستان) مازلت أجد بقايا الظلم والقهر المتبقية على جدران البيوت وبين الأزقة والشوارع، وعلى محيا أحياء المدينة الحزينة. مازلت أقرأ معاني الوجع والخوف والرهبة في أعين الأمهات المحروقة قلوبهن على فلذات أكبادهن الذين رحلوا احترقوا بالغاز السام.. هنا تبدو العلاقة وثيقة بين مفهوم الوطن ومفردة المكان، والبعد والقرب، وصورة الوطن في المخيلة. هذه هي التفاصيل التي أتعامل معها حين أكتب قصيدتي عن الوطن وأنا بعيدة عنه، لكن لو فصلنا مفهوم الوطن عن مفردة المكان، لكان الوطن شيئاً آخر، فأنت كثيراً ما تبحث عن الأشياء التي تمنحك الإحساس بأنك في وطنك، لكن هل هذا ممكن التحقيق؟، بمعنى آخر هل يمكن أن يحل مكان آخر في الدنيا محل الوطن، عندي أنا هذا الشيء مستحيل، من غير الممكن أن أكتب عن وطني دون أن أستعين بذاكرتي، وذاكرة الحي الذي كبرت فيه، والمدينة التي كنت أركض بين أزقتها، وحتى دون أن أفكر ببائع الحلوى الذي كان يقف في مؤخرة الزقاق وكنا نتسابق لنصل إليه ونشتري منه الحلوى والبسكويت، دون أن أفكر في كل هذا، وأتخيل، لأنني أحتاج إلى صورة وطن حقيقية وأنا في المهجر، لذلك تجد الأديب في خارج وطنه يتعب بسرعة وهو يكتب أو يكاتب الوطن.. من غير الممكن أن أكتب قصيدة وأنا أجلس أتأمل قمة «إفرست» مثلاً، وأتخيلها قمة «حساروست» التي في كردستان، وأكتب قصيدتي . من المستيحل أن يغنيني برج «إيفيل» عن أي صرح في كردستان، قد تبهرني كل المعالم الحضارية في الدنيا بجمالها، أو المعالم الطبيعية في العالم بمناظرها الخلابة، لكنها لن تفلح في أن تمنحني الإحساس حتى ولو لثوان بأني في بلدي، وعلى صخور وتراب كردستان. ٭ في قصائدك الكثير من الرومانسية التي هي بعيدة عن ما يعيشه ربما شعبك، كيف يمكن الخروج في الشعر على المآسي الكبرى التي تعيشها الشعوب؟ - الرومانسية والوطنية تكملان بعضهما البعض في الكثير من الأحيان، فالعشق عشق حتى ولو كنت أعشق فارساً أو أعشق بلدي أو أعشق صخرة على جبل «بيرة مكرون»، عندي الكثير من القصائد التي أتناول فيها قضية شعبي والمآسي الكبرى التي مر بها، ربما لم ترها، وأنا لم أخرج على المآسي التي عاشها شعبي وعشتها أنا شخصياً، أو الأصح أن أقول لا أستطيع الخروج عن المآسي، بل بالعكس وظفتها في قصائد رومانسية، أو أضفي في بعض الأحيان الأجواء الرومانسية على القصائد التي تتحدث عن المآسي والانكسارات والنكبات التي عشناها في الوطن، فالقصيدة التي تبدأ من ألفها بمفردات وطنية وتنتهي ياؤها بمعان ثورية لم تعد تستهويني، لأنها تتصف بالمباشرة المملة . ولا تنسى الطبائع الشخصية للشاعر نفسه أيضاً، فأنا إنسانة حساسة بطبعي وخيالية إلى أبعد الحدود وهذا ما يجعلني فريسة لحالة الرومانسية التي أحبها والتي أتفنن في التعبير عنها.. ٭ كيف تقيمين تجربتك الشعرية من ضمن التجربة النسائية في الشعر الكردي؟ - إذا كنت تريدني أن أتحدث عن التجربة النسائية في الشعر الكردي لن أستطيع أن أقيم نفسي، لأن الأدب الكردي غني بالنتاج الكردي النسوي، لكن أستطيع أن أخبرك عن شاعرات جيلي، اللائي أستطيع تعدادهن على أصبع اليد الواحدة، فنحن كنا عدة نساء من مدينة واحدة، «شيرين ك.» القاصة والشاعرة والصحفية التي هي من الجيل الذي قبلي، لكنني عشت معها تجربتي الصحفية والأدبية في بدايتي، و«كزال أحمد» الشاعرة والصحفية المرموقة التي لا تزال تزاول الصحافة ولها موقعها الممتاز بين الأدباء والأديبات، وشاعرة أخرى أعتقد أنها ابتعدت عن الوسط الأدبي هي «دلسوز حمة» ، لكن قصائدها الجميلة حاضرة في الأذهان.. عن نفسي لن أقيم نفسي بالمعنى المتعارف عليه، سأدع ذلك للنقاد المختصين وللقراء، لكن أقول إنني أكثر الشاعرات أو الشاعرة الوحيدة من جيلي ومن الجيل الذي قبلي والذي أتى بعدي التي وضعت على كاهلها هما ثقيلاً وهو التعريف بالأدب الكردي في الأوساط الأدبية العربية وأيضاً غير العربية، ذلك لأنني بدأت بالكتابة باللغة العربية ومازلت مستمرة، وحافظت على الروح الوطنية الكردية في قصائدي، فمن غير الممكن أن تقرأ لي قصيدة دون أن تقرر أنني كردية.. و قد حاولت تسخير كل طاقاتي الأدبية في إيصال صوت القضية الكردية والتعريف بالمعاناة التي عاشها الكرد على يد محتليه من خلال نتاجاتي الأدبية والصحفية ومن خلال ترجماتي لأدباء آخرين كرد ومن خلال النشاطات التي أشارك فيها أو التي أقيمها، والكتابة عن الواقع الذي يعانيه الأدب الكردي من محو المعالم الحقيقية للثقافة الكردية على يد الأنظمة التي حكمت ولا تزال تحكم كردستان وتحاول بشتى الطرق الشيطانية النيل من الهوية الكردية من خلال تشويه تأريخهم الثقافي وإلحاقه بالثقافة العربية أو التركية أو الفارسية، في الوقت الذي تمثله حقيقة وهي أن الأمة الكردية أمة مستقلة بذاتها لها لغة خاصة بها وتأريخ وحضارة خاصة بها، بالتالي لها ثقافتها وسماتها الثقافية التي تميزها عن آداب الفرس والترك والعرب، ويجعلها من الآداب المرموقة في صفوف آداب الشعوب المتقدمة في العالم. ٭ يعني أن هناك أدباً كردياً نسوياً، ولكنه غير معروف في العالم العربي، لماذا؟ - نعم هناك أديبات كرديات، وهنا أحب أن أنوه إلى أنني لا أؤمن بوجود أدب يسميه البعض الأدب النسوي، أعرف أن هناك أدباً إنسانياً يكتبه الرجل والمرأة، لذلك أرفض تقسيم الأدب على خانتي الرجولي والنسوي، هناك أدب عمالي، أدب الأطفال، أدب المقاومة، الأدب الإنكليزي والعربي... ألخ، لكن أدب نسوي لا أؤمن به - لكن أستطيع القول إن هناك أديبات كرديات، من الأجزاء الأربعة لكردستان، أما غير معروفات، فسبب ذلك يعود في تقديري إلى حد كبير إلى ممارسات الأنظمة التي تحتل كردستان لحد اليوم، فمحاولات العدو تشويه المعالم الثقافية وكبت حرية الكتاب، والإهانات التي كان ولا يزال يتعرض لها الأديب الكردي، من أجل تشويه إنتاجه الثقافي بلغته الأم الذي هو بمثابة الهوية، بالتالي نالت المرأة نصيبها من هذه الممارسات، وكون المجتمع الكردي من المجتمعات الرجولية المتخلفة التي تحكمها لحد الآن بشكل وبآخر عادات وتقاليد اجتماعية ودينية بالية، وتسودها سلطة ذكورية قاسية، تحد من حرية المرأة وتكبل يديها داخل حدود مجتمعها.. هذه الأسباب وأضف إليها تقصير المرأة نفسها بشكل أو بآخر، وتراجعهن في مرحلة معينة من بروزهن وانسحابهن إلى داخل البيت وإعطاء الأولوية إلى أمور أخرى أكثر من الأدب والجانب الثقافي، واعتبار الحياة الزوجية نهاية المطاف، هذا أيضاً أحد الأسباب.. لكن دعني هنا أن أشير إلى نقطة أخرى مهمة وهي أن التعريف بأدب شعب من الشعوب عند الشعوب الأخرى هي مهمة الشعب المعني، لكن مع ذلك الأمر يتطلب من الشعب المتلقي أي الشعوب الأخرى أيضاً البحث ومحاولة التعرف على آداب الشعوب التي يعيشون بالقرب منهم، إذ ينظر العالم لحد الآن إلى الأدب الكردي كجزء إما من الأدب الفارسي أو التركي أو العربي، وفي هذا إجحاف بحق أدب راق مثل الأدب الكردي، إذ أن الأدب الكردي أدب مستقل بملامح وخصوصيات خاصة به. ٭ حركة الأدب الكردي معروفة كثيرا في الغرب، لماذا؟ في حين ان الأكراد موجودون في المنطقة العربية؟ - الأكراد ليسوا كلهم موجودين في المنطقة العربية، بل جزء منهم موجود في المنطقة العربية وجزء آخر موجود في المنطقة الفارسية، وجزء في المنطقة التركية ،ربما هذا الإنقسام هو أحد العوامل التي ساعدت على تشتت الحركة الأدبية الكردية، وربما هذا ما جعله يكون معروفاً إلى حد ما في الغرب أكثر، لكن السبب الأهم هو حركة الهجرة التي بدأت في العشرة أو العشرين سنة الأخيرة، وبالتالي خرج الأدب الكردي من زنزانة النظم التي تحتل كردستان، أنا آخذ نفسي على سبيل المثال، عندما كنت في كردستان لم أكن معروفة إلا في نطاق المدينة التي كنت أعيش فيها فقط وأعمل فيها وأزاول في حدودها نشاطاتي الأدبية، لكن عندما خرجت من كردستان صارت مسؤوليتي أكبر، أولاً التعريف بنفسي كأديبة كردية بين الشعوب الأخرى، ثانياً التعريف بأدب شعبي من خلال تقديم المزيد من الترجمات لأدباء كرد، للتعريف بهم خارج كردستان. أضف إلى ذلك أن المحيط والأجواء في الأوساط الأوروبية تساعد أكثر على التعريف بآداب الشعوب المضطهدة أكثر من الوسط الثقافي العربي المنغلق في تقديري على نفسه، أو أن الوسط الثقافي لشعب يحتل شعباً آخر لا يبحث عن أدب الشعب الذي هو يضطهده، ولا يفسح له المجال لكي يعرف بنفسه، وكذلك الحال بالنسبة للفرس والترك الذين لا يبحثون عن الأدب الكردي ولا يفسحون المجال له.. لكن مع ذلك أستطيع أن أؤكد أن هناك حركة ترجمة جيدة بين الأدباء والمترجمين الكرد، الذين يأخذون على عاتقهم نقل الأدب الكردي إلى لغات غير الكردية ومنها العربية طبعاً . لكن أعود وأكرر وأشدد على الآخر الذي يجب أن يرحب بهذا الأدب ويبحث وراءه، ويفسح له المجال لكي ينمو ويتطور ويعرف بنفسه، كما يبحث الأديب والمثقف الكردي بين آداب الشعوب الأخرى، على المثقف العربي أيضاً أن يبحث وراء الأدب الكردي ويحاول التعرف عليه والاستفادة منه. فالأدب الكردي أدب غني، والشعب الكردي يمتلك ميتولوجيا (أساطير ماورائية) غنية وراقية، لا تقل عما عند الشعوب الأخرى، عربية كانت أو غربية.