آخر رسالة تركتها فرجينيا وولف قبل أن تذهب إلى النهر، تقول فيها إن الأصوات عادت تلاحقها، وتبدو الأصوات التي عبثت بروح فرجينييا وولف ودفعتها إلى الانتحار، هي ذاتها التي أودت بمصير أبرز شاعرة في تاريخ الشعر العربي الحديث نازك الملائكة. آخر سبعينات القرن المنصرم، دخلت الملائكة دائرة الرحيل إلى ممالك مجهولة، ولم يستطع العلاج النفسي انتشالها منها، وما بين صحوة وغيبوبة قضت سنوات من عمرها قبل أن تدخل المصح الأخير في القاهرة. قلة من النقاد انتبه الى حساسية الملائكة الشعرية المرتبطة على نحو غير مسبوق بانهياراتها النفسية، غير أن شاعراً عاصرها هو توفيق صايغ قرأ شعرها من وجهة نظر سايكولوجية، لتصدر تلك القراءة بعد مرور نصف قرن في كتاب حققه وحرره وقدم له الشاعر العراقي محمد مظلوم. "طريدة المتاهة والصوت المزدوج" عنوان الكتاب الذي أصدرته دار الجمل، ويبحث فيه توفيق صايغ عن تلك الأصوات التي غدت الملائكة طريدتها، لتدخل في "المتاهة" التي دارت الكثير من قصائدها عنها. أوراق توفيق صايغ كما يقول مظلوم، تحمل إشكالية المادة التدريسية التي تتفرع عنها استطرادات بالعربية والانكليزية، لأنها موجهة في الأصل إلى طلبة أجانب، ولكن جهد مظلوم في المتابعة والترجمة والبحث وترميم الفراغات، أخرجها في حلة كتاب. ولا تأتي أهمية ما كتب وحاضر فيه صايغ عن ديوان "شظايا ورماد"، كون المادة تطرح وجهة نظر نقدية فقط، بل لأنها على نحو ما، أقرب إلى سجال خفي بين عالمين يتزامنان ولكنهما على قطبي الافتراق، عالم الملائكة وعالم صايغ الشعري. سبق للملائكة أن أخرجت الشاعر من مملكة الشعر لأنه يكتب قصيدة لا تعترف بها، وهي قصيدة النثر، وساجلت جبرا ابراهيم جبرا وسواه من النقّاد حول ما كتبوه عنه. لن نجد في نصه ما يدل على صلة بهذه المسألة إلا على نحو موارب، فهي تشخص لديه نموذجاً لا يبتعد كثيراً عن منطق شعره المسيحي المنزع، الذي تحكمه بؤرة مركزية تدور حول الخطيئة والعقاب. وفي مقدمة محمد مظلوم للنص يرى ان قراءة صايغ أقرب إلى "علم النفس اللاهوتي الذي يجمع بين الشخصانية، عبر التركيز المكثف على الداخل التفاعلي للإنسان، والاهتمام بمشكلة اغترابه، وبين الوجودية المسيحية في أطروحتها الأساسية لمشكلات القلق والعبث واللاجدوى وقضية الخطيئة الأولى، والشعور بالإثم الشخصي، والسأم والملل، والانتظار بلا جدوى". ولعل بمقدورنا أيضاً إدراك المدخل الأول وهو يتشكل عبر فكرة تراود صايغ ويشتغل عليها، وتتحدد في زمان ومكان متخيل في شعرها، ويعتبرهما من بين "الخطوط الرئيسية" التي تظهر بأكثر من صورة، حيث الأمس والذكرى التي تستعيدها تعويضاً عن حزن حاضرها: "إن شقاءها الحالي هو نتيجة أمر حدث في الأمس، نتيجة جُرح أو سواه، حدث وجعل من الماضي مصدر خوف وإذلال لحاضرها، أي عالم ما قبل الخطيئة، ثم الخطيئة". أما المكان فهو المتاهة "لابرث" "التي تدخلها وهي تهرب من حاضرها: "إنه ركض بلهاث كقصائدها، ركض من مكان لآخر، فالمكان الآخر، بدا لها شبيها بذلك المكان الذي كانت فيه، ويتجسد التعبير عن هذا المعنى في ظاهرة "الازدواج والترداد" في شعرها، ولهذا يبدو هربها ركضاً في "لابرث" لا جدوى منه". هذه التوطئة لصايغ ليست بعيدة عن ما طرحته الملائكة في مقدمة كتابها "شظايا ورماد" حول قصيدة "الأفعوان" التي تقول عنها بشفافية ابنة العشرينات وطلاقتها: "عبّرتُ فيها عن الإحساس الخفي الذي يعترينا أحياناً بأن قوة مجهولة جبارة تطاردنا مطاردة نفسية ملحّة. وكثيرا ما تكون هذه القوة مجموعة من الذكريات المحزنة، أو هي الندم، أو عادة نمقتها في سلوكنا الخارجي، أو صورة مخيفة قابلناها فلم نعد نستطيع نسيانها، أو هي النفس بما لها من رغبات وما فيها من ضعف وشرود. "ثم تستطرد" هذا الأفعوان يطاردنا باستمرار وسدى نتهرب منه، حتى لذنا باللابرنث "labyrinth" وهو تيه معقّد المسالك". عندما كتبت نازك الملائكة هذه المقدمة، كانت تقف على مقربة من الكيفية التي ترى فيها اللحظة الانفعالية التي تتلبسها وهي تكتب الشعر، وهي مزيج من المشاعر الذاتية، واستيعاب او تمثّل لقراءاتها الشعرية. فالمتاهة التي كتبت عنها في مقتبل العمر، هي على نحو ما، احدى شيفرات الاغتراب الإنساني في الشعر والنثر، وهي صورة استخدمها شعراء الرومانسية في الغرب، ولكنها وعند الشخصيات المرهفة كما الحال مع الملائكة، تتحول حيازة شخصية حين ترتد إلى الداخل. لعل بمقدورنا القول إن الملائكة كانت تعيش الشعر باعتباره الحياة نفسها، وهي تعبر بين ضفتي شخصيتين تتصارعان في وجدانها، وهذا ما كتبته في عدد من قصائدها، حين كانت تمر بفصام حاد شل قدراتها الكتابية. سببت قصيدة "الأفعوان" إشكالية لنازك الملائكة في العراق، فقد فسرها يوسف الصائغ على طريقة فرويد، بما يحيل العنوان إلى تورية جنسية، ولعل تلك الإحالة الساذجة، وما رافقها من ردود فعل قاسية في العراق على كتاباتها حول الشعر، زادتها عزلة عن العالم الخارجي والملتقيات الثقافية، فكان آخر مربد حضرته في الثمانينات بمثابة الفاصلة الأخيرة في حياتها الاجتماعية. قيمة الملائكة لا تتحد بشعرية شعرها، بل لكونها أقرب إلى مشروع ثقافي في عراق الخمسينات، فلم تكن مجرد شاعرة، بل حاضرت وكتبت وساجلت في مواضيع كثيرة غير الشعر، وكانت في كل تلك المواضيع تبحث عن المختلف في القول، ولكن مرضها النفسي أجهض هذا المشروع المشرق في مسيرة العراق الثقافي. والسؤال الذي بقي معلقاً عن سر انتكاسة نازك، ربما نجده في شعرها، فعلى خلاف ما اعتقد الكثير من قراء شعرها بمن فيهم كاتبة السطور، إن نازك بقيت محلّقة في فضاء الشعر دون أن تطأ قدماها الأرض، يخالف مسار قصيدتها المرتبط بمشاعرها الفورية، وهي مشاعر فتاة مدللة ومرهفة وخائفة من العالم. انتبه توفيق صايغ في كتابه الى ما أسماه "ازدواجية الصوت" عند الملائكة، ويرى انها تتعدى الصراع الداخلي، لتنطوي على نوع من "المصارعة" و "المنازلة" مع العالم، فهي ترى الكون أفقاً وضيعاً محتقراً، وهي تضحك من كل ما في الوجود.. هروب نازك من العالم يراه الصائغ وعي بالإثم الأول، وهو تفسير يقبل استئنافات كثيرة، إذ بمقدورنا أن نقلب حجته، حين نرى إلى فكرة الازدراء، ازدراء الحياة العادية في تصور نازك، نابع من إعلاء مهمتها في هذه الحياة، أي مهمة الشاعر، فهو في تصورها كائن أثيري كما تصف كيتس شاعرها المفضل الذي ترجمت له، وكانت مسكونة بفجيعة موته المبكر وتخيلت نفسها تخاطبه في قصيدتها. وحتى المتنبي تراه مقبلاً عليها من صحارى العرب لتحاوره وتلمس وجوده المفترض في كيانها. لعل عبورها بين الأرواح الشعرية في عالم افتراضي هو عبور ثقافي، ولكنه يترجم في دخيلتها على نحو مختلف، فهي على نقيض مجايليها من الشعراء يدفعها كيانها الأنثوي إلى مشارف بعيدة في تخيلاتها عن وجودها الواقعي، وهي مشكلة عانت منها الكاتبات اللواتي ظهرن في منعطفات التحولات الراديكالية في بلدانهن، أو كن رائدات في ميادين الإبداع. ولعل قراءة صايغ لشعر الملائكة تمنح القارىء فرصة لوضع سكيتشات أولية لمحنة الشاعرة التي أعطبت حساسيتها الشعرية روحها المعذبة بخيالات كانت تقف وراء الواقع.