ما أبعد الليلة عن البارحة، بعد أن كنا نقول ما أشبه الليلة بالبارحة. ففي أيام خوال جلست مع جملة من الأصدقاء العرب المسلمين وبعض الأمريكيين - إبان زمن ابتعاثنا لثلاثة عقود خلت من عمرنا وعمر منطقتنا، كنا نشاهد مقطعاً من تقرير وثائقي حول خروج اليهود في معية المسلمين من أسبانيا النصرانية خشية على حياتهم. بل إن التقرير وغيره من التقارير المنصفة أظهرت كيف تعامل المسلمون مع الذميين في ديارهم في أمن وحرص على أرواحهم وممتلكاتهم وغيرها من الحقوق التي كفلها الشرع وطبقناها بالإيمان، بل وترسخت في ثقافة الحياة والموروث بين الأجيال. فقد كنا فخورين بتسامح أجدادنا وقربهم من عقيدتهم بالرغم من هزيمتهم وإخراجهم من الأندلس. فماذا حدث مع انتكاستنا التي حولت قيمنا الدينية إلى ممارسات مصالح سياسية وإسلام سياسي أكثر مما هو عقدي؟ بل كيف سيشعر المرء منا عندما يشاهد كيف يتم استهداف المستأمنين في ديار المسلمين بحجج واهية؟ أو اتهام بعض أفراد بلادنا من المسلمين مثلاً بالخروج على تعاليم ديننا بحجة أن المنطقة أصبحت دار حرب فكيف سيكون رد فعلنا؟ إننا فعلياً نعيش مأزقاً أخلاقياً أصبح يمس جوهر عقيدتنا وليس أمننا فقط. فعندما يعيش المستأمن في بلد تعمه فوضى الأخلاق قبل فوضى الإرهاب فسيعرف سبب استهدافه، أما أن نترك تلك السلوكيات الإجرامية تطل برأسها القبيح لتستهدف المستأمنين بيننا في تحدّ لما تعلمناه من كتاب ربنا ونهج نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام فأمر لا يغتفر. فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه في سورة الممتحنة :"لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)، فهو نهي واضح أعاد للمسلمين التوازن المطلوب بعد ما قررت الآيات التي تسبقها حتى لا تختلط العداوة مع من يبسط يده بالكفر والعدوان حتى من ذوي القربى. وحتى يصبح الآمن في ديار المسلمين بوابة دخول في دين الله وليس صداً من أهله بجهل وظلم. فلو اتيحت الفرصة لبعض من ألقي القبض عليهم في قضايا الإرهاب وسئل عن هذا التوجيه الرباني لاعترف به ومارس غيره كما حصل مع نماذج مختلفة منذ حادث تفجير العليا إلى آخر اعتداء على مقيم آمن في الرياض. بل إن رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام أكد هذا الحق بقوله:" ألا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه حقه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة" (رواه أبو يوسف في كتاب الخراج). فمن يقعد به عقل وعقيدة ويريد أن تكون له محاججة مع سيد الخلق وفي جريمة ظلم أمام الإله الحق العدل؟ إنها مجازفة تهوي بصاحبها فإن كانت مصحوبة بدم مستأمن فكيف سيكون حال صاحبها وحجته؟ نحن في ثقافتنا نقول "العاقل خصيم نفسه" فكيف بمن قاد نفسه إلى جهالة بعد أن عقل ليصبح في مواجهة سيد الخلق بعد أن عرفه حق المستأمن. والذي يهمني الآن أن الخطر لم يعد مقصوراً على المستأمنين بل تعداهم إلى أهل شهادة التوحيد بتكفير دون معرفة بدواخل صدور المؤمنين. بل وأتصور حال طلابنا وهم يعيشون في بلاد غير المسلمين آمنين فهل سلوكيات بعض السفهاء منا تجيز لأهل الكتاب الاعتداء عليهم؟ فكم تألمنا لقيام مجرم أمريكي استدرج شاباً سعودياً وقتله بداعي السرقة، ووالله لو كان الدافع نزعة تطرف عقدية لتألمنا أكثر. بل إنهم لن يفاخروا كما افتخرنا بأجدادنا من المسلمين المتسامحين، لأن صورة أهلنا الحاليين تقف عاجزة عن فهم تشويه دين التسامح على يد أبنائه. ولذا يجب أن نعيد عقارب ساعة ثقافتنا جدياً نحو ثقافة التسامح التي أمرنا بها لنستبطن مواقع الشبهات التي قادت إلى فكر التطروف والخوارج إلى أن أصبح لدينا "فئة ضالة"، فإن استمرت أفكارهم سيصبح لدينا أيضاً " ثقافة ضالة". فمن كان يحب الله ورسوله فليسع إلى صون صورة ديننا العظيم الذي أصبح عرضة للأذى حتى من أبنائه. أسأل الله أن يستنهض في أمتنا عزيمة الخير التي ستطفئ بإذن الله كل نيران الشر التي أوقدتها جاهلية السياسة فوق نور العقيدة.