مقال جميل يذكرنا بعلاقات الكبار، هامات مرتفعة محلقة مترفعة عن الصغائر، هدفها الصالح العام...بعيدا عن الاناء والأنانية وحُب الذات والانتصار الذات والفظاظة والغلظة...نترككم مع المقال: فضحتونا الله يفضحكم! /مفرج الدوسري حين علم الدكتور غازي القصيبي رحمه الله بوفاة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله كتب (اذا قيل الشيخ عرف الناس الرجل المقصود، جاءه اللقب من الجموع، لم يحصل عليه من جامعة ولم تنعم به هيئة ولم يصدر بتحديده مرسوم، كان الشيخ كبيرا، وكان كبيرا جدا، كان كبيرا بعلمه، وكان كبيرا جدا بتواضعه، وكان الشيخ كريما، وكان كريما جدا، كان كريما بماله، وكان كريما جدا بنفسه، وكان الشيخ طيبا، وكان طيبا جدا، كان طيبا لا يخادع احدا، وكان طيبا جدا لا يغضب من احد خدعه، كان بعض اجتهاداته موضع خلاف أما نزاهته الفكرية فكانت محل اجماع، قولا واحدا، ذات يوم قرع الباب بمنزلي في حي «الروضة» بالرياض وفتحت زوجتي الباب وجاءت، مذهولة، تخبرني ان الشيخ عند الباب يستأذن في الدخول وذهلت بدوري كان البعض غفر الله لنا ولهم قد دقوا بين الشيخ وبيني -عطر منشم - ونقلوا اليه ما نقلوا مشوها ومحرّفا وخارج سياقه، وكان بيني وبين الشيخ عتاب لم يخل من حدة، وتحمل الشيخ الحدة كما يتحمل الأب الصبور نزوات الابن المشاغب، وهُرعت استقبل الشيخ رغم الحمّى التي كانت وقتها زائرة ثقيلة بلا حياء، قال الشيخ إنه سمع بمرضي وجاء يعودني، وتحدثنا طويلا، وقال عن عملي في وزارة الصحة ما يخجلني حتى بعد هذه السنين ان أردده، ودعا لي وخرج، وذهبت، ذات مساء، أزوره وكان يجيب على أسئلة الرجال والنساء كعادته بعد صلاة المغرب عبر هواتف أربعة لا تنقطع عن الرنين ثم خلا لي وجهه وتحدثنا ما شاء الله ان نتحدث وقبل ان أخرج قلت مترددا: يا سماحة الشيخ هل تسمح لي بابداء نصيحة شخصية؟ وابتسم وقال: تفضل تفضل، قلت: هذه الفتاوى الفورية على الهاتف ثم أحجمت عن الكلام تقديرا واحتراما واتسعت ابتسامة الشيخ، وقال: تكلم! تكلم قلت: هذه الفتاوى الفورية على الهاتف ألا يحسن ان تؤجل حتى تُكتب وتُدرس؟ وقال الشيخ: جزاك الله خيرا، أنا لا أفتي الا في المعلوم من الدين بالضرورة أو في الأمور البسيطة التي يحتاجها عامة الناس في حياتهم اليومية أما ما يحتاج الى بحث وتمحيص فليس مكانه الهاتف». وشكرت له سعة صدره وخرجت ومرت الأيام والأعوام نلتقي بين الحين الطويل والحين وكان كل مرة يحييني تحية الوالد الشفوق رغم العطر المسموم الذي لم يكف تجار الوقيعة عن تسويقه وجاء احتلال الكويت وخاف من خاف وسعى للغنيمة من سعى وطمع في الزعامة من طمع وانتهز الفرص من انتهز وانتظر الناس كلمة الشيخ، ووقف الشيخ وقال ما يعتقد أنه الحق ولم يبال بردود الفعل العنيفة وبدأ الشيخ الضئيل عملاقا في عباءته الصغيرة، والزوابع تدور حوله مزمجرة هادرة شرسة، كل زوبعة تحاول ان تجرف الشيخ معها، وكان الشيخ الضئيل صامدا كالجبل الأشم، جاءت الزوابع وذهبت، وثارت العواصف وهدأت، وبرنامج الشيخ لا يتغير، الصلاة، والدروس في المسجد، وتلاميذ بلا عدد، الدوام في المكتب، ومراجعون بلا حساب، وضيوف الغداء، وضيوف العشاء، والباب المفتوح أمام الجميع، واللسان العفّ حتى مع المخالفين الذين لا يعرفون عفة اللسان، والهاتف لا ينقطع عن الرنين والشيخ يجيب ويجيب ويقضي كل لحظة من لحظات الصحو معلماأو متعلما أو عابدا يحمل هموم المسلمين في كل مكان حتى ليكاد ينوء بها جسمه الضئيل لا يقول الا ما يعتقد أنه الحق ولا يرجو رضا أحد سوى الله، ومات الشيخ، ذهب بهدوء، كما عاش ببساطة وترك الجموع الواجمة تصلي على جنازة الرجل الذي لم يتأخر يوما عن الصلاة على جنازة مسلم معروفا، كان أو مغمورا، رحم الله الشيخ الضئيل، العملاق، عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وأسكنه بعد سجن الدنيا الضيق جنة عرضها السماوات والأرض، أحسبه ولا أزكي على الله أحدا، أحبَّ لقاء الله، - وأستغفر الله ان أقول ما ليس لي به علم- ان الله أحبَّ لقاءه). نقطة شديدة الوضوح: عالم جليل بمنزلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وشخصية بارزة جمعت العلم والأدب والثقافة والسياسة كالدكتور غازي القصيبي رحمه الله، اختلفا فحفظ كل طرف منزلة الآخر ومكانته، ولم يفعل احد منهما كالذي يفعله بعض طلبة العلم عندنا ممن مزج الدين بالسياسة فدنس الأول برجس الثانية! أو كالذي نسميهم خطأ ساسة وهم لا يفقهون من أبجدياتها شيئاً، وليس لهم من العلم ولا المعرفة ولا الثقافة نصيب! فضحتونا الله يفضحكم. مفرج الدوسري [email protected]