الجوامع أم المصانع؟ برق السؤال الآنف في بؤرة عقلي وأنا في طريقي إلى أحد المساجد لأؤدي الصلاة، بينما وقف شباب على قارعة الطريق يتجاذبون أطراف حديث لا يخلو من العشوائية والعصبية، غير مكترثين بنداء « حي على الصلاة»..« حي على الفلاح»، وكأنهم ليسوا من الأحياء!!. سِرتُ ونفسي منشطرة بين شعورين.. الأول: شعور بالحنق والضيق جراء إعراض هؤلاء الفتية عن تلبية نداء الصلاة، والثاني: شعور بالشفقة على تلك الطاقات المعطلة عن العمل والتي تُستنزف في توافه الأشياء، وبين الشعورين دار سجال ونزال حتى دُفعتُ دفعاً إلى كتابة هذه السطور. أقول.. لدينا طاقات حجبها سوق العمل عن الانطلاق والتحليق لأنه سوق محكوم بقانون العرض والطلب، فالمعروض أكثر من المطلوب، إذ الجامعات والمدارس تضخ كل عام آلاف الخريجين الذين يتَحَصَّل بعضهم على وظيفة أو عمل، وبعضهم لا تمكنهم آليات سوق العمل من الحصول على عمل، وتلك الشريحة هي الصداع المزمن الذي يبحث عن علاج. رحت أتأمل القضية فهداني تفكيري إلى نقطة ضوء ربما تُشكل بنداً من بنود حل معضلة تتعلق بشريحة تمثل عصب المجتمع وطاقته المتوقدة ودمائه المتدفقة، والذين تعطلت طاقاتهم وتجمدت دمائهم، ومن ثم فقدوا التعبير عن أنفسهم والإفصاح عن قدراتهم، ومن ثم فقدوا رضاهم عن الحياة، وعليه اضمحلت طموحاتهم المادية كما تراجعت قدراتهم الروحية، و نقطة الضوء هي: إعادة تشكيل العقلية الدينية داخل المجتمع العربي، بما يؤصل لمفهوم « أن الدنيا والآخرة طريقان متصلان لا طريقان منفصلان » بحيث يمثل ذاك المفهوم مدخلاً لبناء وعى جديد لا يفرق بين « المسجد والمصنع ». مثال لتتضح الفكرة.. لو نادي مناد في الناس أن تبرعوا لبناء « مسجد ما » فلن يترد أحد من السامعين في إخراج كل ما فيه جيبه من نقود، ثم الدفع بها في صندوق أو حجر من نادي دون إبطاء أو تبرم أو استفسار، لكن الحال يختلف إذا نادي المنادى أن تبرعوا لبناء « مصنع ما » إذ يتفلت البعض، ويسأل البعض الآخر لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟، ولا يستجيب إلا القليل من الناس.. فلماذا تباين رد فعل الناس؟ وهل المصنع يقل أهمية عن المسجد؟ وهل الثواب من الله متوقف فقط على بناء المساجد؟!!. أقول.. لن يتغير واقع المسلمين حتى يتساوى في قلوبهم حب المصنع مع حب المسجد، فلكل منهما في حياة الناس دور، وكلا الدورين يشكلان معاً طريقاً واحداً يبدأ بالدنيا وينتهي بالآخر، وعليه فالحماس لإنشاء المصانع التي تخلق فرصاً للعمل، وتستثمر طاقات الشباب في الإنتاج يجب أن يتحول إلى عقيدة، بل إن الضرورة الدينية والحياتية تستوجب الاهتمام ببناء وتشييد أماكن العمل والإنتاج، خاصة وأن المساجد بفضل الله كثيرة ومنتشرة. ورأيي المتواضع.. أن الشباب لن يستمع إلى أحاديث القناعة والرضا والزهد، لأن الذين يتحدثون بها يسقطونها على غير واقع، إذ كيف تحدثني حديثاً شجياً عن الزهد وأنا لا أملك.. أليس الزهد أن أملك الشيء وأزهد فيه؟! إن كانت الإجابة \"ببلى\" فلماذا تأمرني بالزهد وأنا معدم؟! هذا هو السؤال. ** نحن نحتاج إلى ثقافة دينية متوازنة لا تميل إلى متطلبات الدنيا فتعد تفريطاًً، ولا تمعن في التشدد في أمور الدين فتعد إفراطا. ** نحن نحتاج إلى أن نتعامل مع التقصير في قضايا التشغيل والعمل والإنتاج على أنها مثل التقصير في العبادات، ولذا فالدور ليس دور الحكومات فقط، بل الدور دور المجتمع بكافة أفراده ومؤسساته لأن الأمر يمس الجميع. ** نحن نحتاج إلى بناء ثقافة جديدة للتبرع والعمل الخيري، بحيث تنتقل إلى الأعمال العامة التي تعود ثمرتها على الجميع، يتساوى في ذلك التبرع لدور العبادة مع التبرع لأماكن خلق فرص العمل والإنتاج. عبد القادر مصطفى عبد القادر [email protected]