في حياتنا اليومية نقابل الكثير من الأشخاص الذين لا نكاد نذكر اسماءهم بعد رحيلهم بخمس دقائق, وهناك بعض الأشخاص الذين يؤثرون فينا من اللقاء الأول فيتركون في أنفسنا بصمة واضحة وتأثيراً عميقاً يلهمنا لنكمل طريقنا. كما أن هناك بعض الأشخاص الذين لم نقابلهم ولكن تأثير سحرهم يمتد ليصل إلى اعماق اعماقنا فيدفعنا للانجاز والعمل والنجاح أكثر وأكثر إما بكتاباتهم , انجازاتهم أو سيرة حياتهم. كان الدكتور السفير الراحل غازي القصيبي بالنسبة لي أحد رموز الإلهام التي كلما قرأت لها أو سمعت عنها تجتاحني موجة من الهيام الأدبي تدفعني لأن أمسك بقلمي وأكتب, كان ملهمي حتى موته الهمني لأكتب لوداعه. فكنت دائماً ما أجد تفسيراً وتصويراً للكثير من الحالات النفسية التي كنت اعيشها وبموته علمت أنه يجب علي أن أبحث طويلاً قبل أن أجد مرة أخرى شخصاً يشرحني بتلك الدقة رغم كل تلك المسافات بيننا. لم أكن أعلم أنه سيكون ملهمي حتى بعد رحيله, كم فرحت عندما حلت روحه اليوم رحمه الله ضيفة علي لتشرح لي حالة نفسية كنت أعيشها قبل فترة ولم أجد لها تفسيراً ولكنها عادت مع عودة روح الدكتور الراحل وأنا أقرأ أقصوصته الأخيرة (الزهايمر), رحمك الله أبا يارا. تبدأ القصة وباختصار شديد (لا تصدقوني إن قلت اختصاراً شديداً فمع شخص كثير الكلام مثلي ليس هناك معنى لتلك الجملة في قاموسي) ما علينا, بدأت القصة مع أول أنفاسي في هذه الحياة فبما أنني أول حفيدة في عائلتي لوالدتي فقد حظيت بطفولة سعيدة فدائماً ما يكون للحفيد الأول نصيب الأسد من المحبة والدلال فعشت متنقلة بين منزل والدي ومنزل (العائلة) عائلة أهل والدتي “ (أمي) أم والدتي وخالتي رحمها الله وأخوالي” كانت طفولتي سعيدة جداً وكان قد من الله علي بثلاث أمهات والدتي وأم والدتي والتي اناديها ب( أمي) وخالتي رحمها الله, فقدت إحداهن بعد إصابتها بالسرطان وهي خالتي ثم بعدها بشهرين فقط أصيبت (أمي) بجلطة في الدماغ أدخلتها في غيبوبة لمدة 3 أشهر وبعد أن أفاقت لم تكن تستطيع الحراك أو الحديث, وتغيرت ملامحها وأبيض شعرها فلم أستطع أن أميز إن كانت تستطيع أن تتعرف علينا أم لا. ولكني فوجئت بنفسي قد تناسيت كل ذلك الحب الذي أكنه لها, وجدت نفسي أعتبرها شخصاً غريباً لم أعد أعرفه, ليست أمي التي كنت أعرفها, لا تشبهها في شيء الملامح ليست نفس الملامح والمشاعر ليست نفس المشاعر, بدأت أتخبط اناديها أمي ولكني لا أشعر أنها أمي التي كنت أعرفها قبل مرضها, بدأت أشعر بالذنب لم يستطع عقلي استيعاب أن ذلك الشخص الذي كان يحكي لي كل تلك القصص الجميلة ويحضر لي الحلوى وأبيت معه نسهر ليلاً نتحدث ونلعب هو نفس الشخص الذي أفاق من الغيبوبة, لم أستطع أن اعرف كيف تحولت كل تلك المشاعر, لماذا اعتبر (أمي) قد توفيت يوم الغيبوبة والتي أمامي الآن شخص جديد سأبدأ باكتشافه. كيف, كيف, كيف؟؟؟ انتابتني نوبة من الحزن والشعور بالذنب والخوف وتأنيب الضمير. أقوم بزيارتها وأتحدث اليها ولكن ليس بنفس عشقي وهيامي بأمي التي فقدتها عند دخولها في الغيبوبة. كنت أحسد والدتي وأخوالي لقدرتهم على الربط بين الحاضر والماضي. كنت أحسدهم على قدرتهم على الاحساس بها على انها نفس الشخص قبل وبعد الحادثة. توفيت أمي بعد ثلاث سنوات تقريباً كنت خلالها اصارع كل تلك المشاعر التي حبستها داخلي ولم أصارح بها أحداً لعدم قدرتي على فهمها. تحدثت بعد وفاتها رحمها الله إلى والدتي ولكنها استعجبت الأمر, مرت الأيام تلو الأيام ولم أتناس الحكاية فقد كان شبح شعوري بالذنب وعدم فهمي لما حدث يراودني بين الحين والاخر لشعوري بالتقصير في حقها بعد أن كانت أمي الحنون طوال فترة حياتها. سيدي الوزير الراحل تغمد الله روحك واحلها دار فردوسه, اليوم وأنا أقرأ كتابك (الزهايمر) أستطعت كعادتك للمرة المليون أن تشرح لي نفسي عندما يستعصي علي فهمها, يقول الدكتور الراحل في الأقصوصة: (بعبارة أخرى, ياعزيزتي, هل لاحظت أن البشر الطبيعيين لا يعودون طبيعيين عند التعامل مع انسان يعتبرونه غير طبيعي؟! هل جربت أن تتحدثي مع شخص مختل عقلياً؟ أراهنك أنك سوف تجدين سبباً للهرب بعد دقيقتين أو ثلاث! لا! لا تنكري ولاتخجلي هذه هي الطبيعة البشرية القاسيه! آه! أعرف ماذا ستقولين. ستقولين إن الأمر يختلف عندما نتعامل مع أشخاص نحبهم ويحبوننا, مع زوجاتنا أو أولادنا أو أخواننا. وبإمكانك أن تكوني أكثر نبلاً وأرق إحساساً من بقية البشر. لن أجادل. أقول ببساطة, إن المشكلة التي لا يمكن أن تهربي منها: هي أن الانسان الذي تحبينه تغير بشكل جوهري جذري لم يبق فيه شيء من الأشياء التي تحبينها. التي أحبت انساناً لظرفه ستجد أن ظرفه تبخر مع تبخر قدرته على الحديث. التي أحبت انساناً ما لوسامته ستجد ان وسامته أصبحت وسامة تمثال. عندما أعجز عن الكلام والفهم والحركة هل سيبقى فيّ شيء صالح للحب؟ لا! يمكن أن تبقى الشفقة, ولكن الشفقة عاطفة رقيقة يصعب أن تدوم اذا تعرضت لهجوم يومي مدمر).(|). هذا ما قاله السفير الراحل في كتابه وجعلني لن أقول أسامح نفسي وأتناسى الشعور بالذنب ولكنه جعلني أشعر أنني لست وحدي وأن هناك من عاش نفس تجربتي. اتساءل الآن لماذا تفقد عقولنا القدرة على الربط بين الحاضر والماضي لمجرد تغير الملامح والقدرات؟! هل محبتنا لمن حولنا لم تكن حقيقة أو كافية لنقف معهم في محنهم بنفس مشاعر المحبة قبل تغير ملامحهم ووجوههم؟ هل الوجوه والأصوات والقدرة على الحديث والحركة هي ما كنا نحب أم روح هؤلاء الأشخاص؟ ما هو الإنسان أصلاً هل هو أشبه بلعبة (الليجو) قطع صغيرة فالصوت قطعة والابتسامة تشكل قطعة أخرى والحديث قطعة والحركة قطعة أخرى والذاكرة قطعة مهمة لاكتمال المجسم وعندما تجتمع جميعاً ينتج عنها تكون ذلك الانسان الذي نحبه وبفقده للكثير من تلك القطع نفقد نحن القدرة على التعرف عليه. ترى هل سيحبنا من حولنا بنفس الطريقة إن كنا نحن من خسر كل تلك القطع؟ وهل سنشعر بتغير من حولنا؟ هل سينتابنا الحزن لفقد محبتهم أم أنه بتغيرنا سنفقد أيضاً قدرتنا على استيعاب مايحدث حولنا؟ الكثير من التساؤلات تنتابني والتي لا أعلم لها إجابة, ولكنه خوف يعتريني من أكون أنا هذا الشخص يوماً ما وأتحسر على خسارتي لنفسي ومن حولي أيضاً. (|) الزهايمر, القصيبي, غازي عبدالرحمن.الطبعة الأولى 2010م, ص 124.