الحنين للماضي له دوافعه وأسبابه ولما كان فيه , لا لأن الماضي بأفضل من الحاضر بل لناسه الذين عاشوا فيه هم طيبون جدودا وجدات ونحن أبناؤهم وأحفادهم ونفتخر بهم وبأمجادهم ونتذكرهم ونكن لهم كل حب واعجاب وذكريات باقية. ويعجبني قول خالة لي يحفظها الله ويرعاها حينما تقول (معششين في دماغى) كلام حلو بسيط في المعنى والوصف ومأخوذ ومختار من البيئة التي عايشها أهلها في حقب الزمان الذي رحل (زمان جدتي وجدي) أو (سيدي وستي) رحم الله ستي الحبيبة تلك السيدة الوقورة وكلامها العسل الحنونة والتي كانت تحمل قلباً كبيراً يسع كل أفراد الأسرة ويشملهم محبة والجميع يكنون لها المكانة المرموقة والاحترام وكانت صاحبة الدور القيادي في تسيير أمور المنزل. أنا اتكلم عن الماضي ونحن صغار فما كان أكثر ما يعجبني من ممتلكات (ستي) صندوقها الخشبي الخاص بها ولهذا الصندوق عدة مسميات (صندوق السيسم أو السحاره أو الصندوق الخشب وصندوق ستي) وهو عبارة عن صندوق مصنوع من الخشب بأيدي أمهر النجارين المختصين ومن أجود أنواع الخشب ويطلى من الداخل والخارج بمواد تعطيه النعومة ويزخرف وترسم عليه أشكال فنية تُحلى بمسامير نحاسية لها عدة ألوان فتجعل من الصندوق تحفة رائعة تبهر من يراه وكانت ستي تضعه في زاوية من غرفة معيشتها والتي كانت تسمى في تلك الاونة (بالمبيت) وكان المبيت بأعلى الدار مجاوراً للسطح العلوي وتحرص على العناية به وله قفل محكم ومفتاح لا تتركه ولا تسمح لأي فرد أن يلمسه تجده دائماً بحوزتها وتخفيه في مكان لا تصله ايدي الفضوليين. فلما كانت (ستي) تولي صندوقها هذا الاهتمام أنه بالنسبة لها (الخزنة) التي تضع فيها كل مقتنياتها ملابسها الخاصة (حوايجها) وأدواتها الشخصية وأيضاً المبالغ النقدية والمجوهرات وكل ما هو نفيس وغالٍ بالنسبة لها أو لمن يود ان يحتفظ بمدخراته أمانة لديها من أبنائها أو بناتها. ومن محتويات هذا الصندوق قنانين الريحة (قزايز العطور) وصرر الحناء العجمي وكذلك مكاحل الكحل الحجر وكحل الدلال مع مباردها المصنوعة من العاج والنحاس الناعم وللكحل والحناء المكانة العظمى لزينة سيدات المجتمع في تلك الاونة وأيضاً كان الصندوق يحتوي على باقي أغراضها وهي الفساتين (الكورت) المسمى القديم والمعروف لدى الستات وكانت الكرت تحاك وتعد لجميع المناسبات المفرحة أو المحزنة أو للزيارات العائلية أو عند ذهابها للجيران كل مناسبة كان لها كرتها. فكانت رحمها الله تضع كل مجموعة منها فى (بوقشة) وهي عبارة عن قطعة قماش مطرزة ومخصصة تضعها فيها. بوقشة لكرت الأفراح وتوابعها من سداري ومدورات ومحارم وبوقش أخرى لملابس العزاء أطال الله اعمار الجميع وهي نوعان (كورت سوداء وكورت بيضاء) مع جميع ما تحتاجه من مستلزمات. لقد كانت ستي إنسانة وسيدة في منتهى الذوق والاناقة سيدة تعرف الواجب والمطلوب لكل مناسبة ولكل وقت وما يجب ان يشتمل عليه ويحتويه. ويهمها حليها الذهبية المكونة من ازارير السديري المذهبة والفضية والعقود الماسية والغوايش الذهبية وكلما تحبه من زينة كل نوع يتواجد في مطبقية زجاجية مكانها أسفل الصندوق.