كان لثقة جلالة الملك المؤسس في نجله النابغة فيصل رحمهما الله الدور الأكبر في تشريفه بالنيابة العامة عنه في الحجاز وترؤسه لحكومتها.. فوجد الفيصل نفسه وقد ألقي على كاهله مهمة تسيير أمور هذا القطر والسهر على راحة وحماية قاصدي البيت العتيق فضلاً عن العناية بشؤون الحجازيين.. فكان أهلاً لتلك الثقة وعزف على وتر التطور الإداري الذي كان الحجاز يتميز فيه عن سائر أقطار الجزيرة العربية في تلك الفترة فوضع اللبنات الأولى للتنظيم الإداري الأمثل وطور مرة واثنتين وثلاث وأربع دون كلل أو ملل حتى ارتقى رحمه الله ببلاد الحجاز إلى آفاق من التقدم والازدهار جعلت من هذا القطر مثالاً أعلى للمدنية والتطور وسارت بقية أقطار الوطن بعد ذلك على خطاه ونهجه الذي رسمه له الفيصل بموافقة ودعم وتأييد كبيرين من جلالة المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. أما أعمال الفيصل في الحجاز فتحتاج إلى آلاف الأمتان ومئات المجلدات والتي ستضيق بها مساحة صفحتنا هذه إلا أننا سنمر على أهمها باختزال فإلى التفاصيل: بعد أن أنيطت بالهيئة التأسيسية الاستشارية التي أمر بها السلطان عبدالعزيز مهمة وضع التشكيلات والتنظيمات المركزية للدولة الحجازية وتمكنها خلال تسعة أشهر من وضع تصوراتها عن التنظيمات المقترحة للحكومة الجديدة في الحجاز وبينت كيفية أسلوب الحكم والإدارة من خلال تعليمات عُرفت باسم (التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية) وبعد موافقة السلطان على توصيات الهيئة الاستشارية في 21 صفر1345ه أصبحت بنود تلك التعليمات وتوصياتها بمثابة الأساس التنظيمي للدولة السعودية وأصبحت التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية هي النهج الذي سارت عليه الحكومة في اتجاه التكامل التنظيمي الإداري والسياسي للدولة بصدور التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية ولم يعد العمل محلياً في مكةالمكرمة فقط بل أصبحت التنظيمات المقترحة تخص جميع المدن الحجازية وقد قامت صحيفة أم القرى بنشر تلك التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية في عددها الصادر برقم 90 وتاريخ 25صفر 1345ه والتي ينص القسم الأول منها على وَحْدة المملكة وشكلها وعاصمتها ولغتها. فيما نصت المادة الثانية من هذا القسم:(إن الدولة العربية الحجازية) دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها). أما القسم الثاني من الدستور فقد نص على أن: (تكون جميع إدارة المملكة الحجازية في يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود). كما وضحت المادة السادسة في هذا القسم الأحكام : (الأحكام تكون دوامًا منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح). وفي القسم الثالث جاء في المادة التاسعة منه ما يأتي: تنقسم أمور المملكة الحجازية إلى ستة أقسام أساسية وهي : الأمور الشرعية ,الأمور الداخلية ,الأمور الخارجية ,الأمور المالية ,أمور المعارف العمومية ,الأمور العسكرية . وفي القسم الرابع بيان المجالس الاستشارية وهي : مجلس الشورى بمكة ومجلس المدينة ومجلس جدة ومجالس النواحي ومجالس القرى والقبائل ,ويمضي ذلك الدستور حتى غايته في 79 مادة وتسعة أقسام . وقد طرأت على ذلك الدستور في نفس سنة صدوره بعد بضعة أشهر بعض التعديلات كان أولها تعديل لقب الملك إلى (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها). وأصبحت المواد والتعليمات الأساسية لتأسيس المملكة الحجازية تشكل القاعدة الصلبة التي بُنيت عليها لاحقاً هياكل ونظم أخرى في عملية تشكيل الأجهزة والإدارات بمكةالمكرمة في تلك المدة حيث لم تكن تعني قيام تلك الأجهزة بممارسة جميع النشاطات المتصلة باختصاصاتها بل يمكن القول: إن نشاطاتها اقتصرت على الأعمال والخدمات البسيطة والميسرة والمحدودة في تلك الفترة فلم تكن التعليمات والمواد الأساسية التي صدرت عن الهيئة التأسيسية هي نهاية المطاف في العملية التنظيمية بل كانت البداية الحقيقية والسليمة لعمل دؤوب مستمر قوامه التعديل والتغيير والتطوير. دمج المجلسين ونظراً لأن المعاملات كانت في السابق تُعرض عادة على مجلس الشورى الأهلي والذي تألف أثناء فترة حصار جدة ثم عاد مرة أخرى إلى المجلس الاستشاري (مجلس نائب جلالة الملك) وما كان يؤدي إليه ذلك من تأخير للبت فيها إضافة لكون أن بعض أعضاء مجلس الشورى الأهلي هم من الموظفين في دوائر حكومية أخرى مما يتسبب هذا في تأخر البعض منهم إما عن وظائفهم أو عن الحضور لجلسات المجلس وحرصاً على المصلحة العامة فقد صدر أمر ملكي يقضي بجمع المجلس الأهلي مع مجلس نائب جلالة الملك ليكون في عام 1345ه مجلسا واحدا فقط بهدف تطوير مهمات المجلسين وتوحيد الجهود وتكون من ثلاثة عشر عضواً غير متفرغين وهم المستشار حافظ وهبه وحمزة الفعر والشريف حسين عدنان وعبدالعزيز العتيقي والشريف شرف عدنان وعبدالله الشيبي وحسين باسلامة وماجد كردي ومحمد الألفي وعبدالرحمن زواوي وعبدالوهاب عطار والشريف شرف رضا ومحمد سعيد أبو الخير يشغلون مناصب حكومية مختلفة وأسندت رئاسته إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز النائب العام وبعد تشكيل المجلس أصبحت التعليمات الأساسية دستوراً يسير عليه وظل كذلك إلى نهاية العام. إلا أن ذلك المجلس لم يكن له ذكر في الواقع سوى انه فقط مهد لتأسيس مجلس الشورى كما عمل بكونه صمام الأمان لمنع الاستعجال في تشريع أي مسألة مهمة ومن بين أهم انجازاته تشكيل لجنة التفتيش والإصلاح التي تهدف إلى العمل على تطوير الجهاز الإداري للدولة وتنظيمه في عام 1345ه فقد قامت اللجنة بدور كبير في تطوير الجهاز الإداري وتحسس مكامن الخلل فيه ومن بين ما اقترحته اللجنة أيضا مشروع نظام لمجلس الشورى الذي وافق السلطان عبدالعزيز على إنشائه. حل مجلس الشورى وبعد أن بايع أهالي الحجاز السلطان عبدالعزيز ملكاً عليهم في 25رجب 1345ه فأصبح ملكا على مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها واصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز بلاغا من النيابة العامة يقضي بحل المجلس في 7 المحرم 1346ه وبعد يومين من حل المجلس صدر نظام مجلس الشورى الذي تكون من خمس عشرة مادة. وفي نفس ذلك اليوم صدر النظام الذي بموجبه تم تعيين أعضاء المجلس الجدد وهم يوسف قطان واحمد سبحي وصالح شطا وعبدالله زواوي ومحمد يحيى عقيل وعبدالله الجفالي وعبدالعزيز بن زيد وعبدالوهاب عطار وأسندت رئاسته إلى الأمير الفيصل النائب العام لجلالة الملك وفي حال غيابه يترأس المجلس إما معاونه أو أحد مستشاريه. وقد حُصرت الأعمال والموضوعات التي تعرضها الحكومة على المجلس في موازنات دوائر الحكومة والبلدية وموازنة عين زبيدة والترخيص للمشروعات العمرانية والامتيازات والمشروعات المالية والاقتصادية ونزع الملكية للمنافع العمومية وسن القوانين والأنظمة والزيادات التي تضاف إلى ميزانية الدوائر الحكومية خلال العام والنفقات العارضة لدوائر الحكومة خلال العام وقرارات استخدام الموظفين الأجانب والعقود مع الشركات والتجار وفق المادة السادسة من نظام مجلس الشورى عام 1346ه. ويذكر صافي إمام موسى في سفره (تجربة المملكة العربية السعودية في الإصلاح الإداري وإعادة التنظيم) : إن الكثير من المجالس واللجان والأنظمة التي استحدثت في شهر محرم من عام 1346ه كانت نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لجهود تلك اللجنة بما قدمته من تقارير ايجابية وتوصيات سديدة. جلسات يومية وقد مارس مجلس الشورى أعماله وفقاً لنظامه لمدة سنة تقريباً وفي 25 من ذي الحجة 1346ه صدر أمر ملكي يقضي بحل المجلس بناءً على اقتراح الأمير فيصل النائب العام الذي رأى (وجوب الاستئناس برأي عامة الشعب فيما يراد إجراؤه من الإصلاحات والإنشاءات). وعقد مجلس الشورى في عام 1347ه في جلسة برئاسة الأمير فيصل بن عبدالعزيز النائب العام بحث فيها موضوع تعيين وكيل رئيس لمجلس الشورى ينوب عن الفيصل في إدارة الجلسات حيث تقرر ترشيح الشيخ عبدالله الفضل لوكالة رئاسة المجلس وانتخب صالح شطا وكيلاً ثانياً لرئاسة المجلس كما اصدر الفيصل اللوائح الخاصة بالنظام الأساسي لمجلس الشورى والذي يتضمن بعض التعديلات الشكلية على النظام الصادر في عام 1346ه وأهم تلك التعديلات عدم تحديد عدد الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الشورى وترك ذلك للإدارة الملكية وإيجاد نائبين لرئيس المجلس الأمير فيصل النائب العام أحدهما نائب أول للرئيس ويعين من قبل الملك عبدالعزيز والآخر يُنتخب من قبل المجلس ويقوم مقام النائب الأول للرئيس في حال غيابه وتكون جلسات المجلس يومية للنظر في الأعمال المعروضة عليه بدلاً من انعقاده مرتين في الأسبوع. واستمر المجلس في ممارسة صلاحياته في مجال التشريع حتى نهاية عام 1348ه وفي غرة ربيع الأول 1349ه تم تشكيل مجلس الشورى الجديد المكون من الأمير فيصل بن عبدالعزيز رئيسا للمجلس والشيخ عبدالله الفضل نائباً للرئيس والسيد صالح شطا نائباً ثانياً والشيخ عبدالله الشيبي وعبدالوهاب نائب الحرم وذياب الناصر وعبدالوهاب عطار وسعود دشيشة وعبدالله الجفالي ومحمد علي القفيدي ومحمد المغيربي ومصطفى الخطيب ومحمد الطيب الهزازي ومحمد علي قابل وكان نظامه الأساسي هو النظام السابق غير أنه جرى تعديل المادة السابعة منه وظل المجلس يسير على ذلك إلى نهاية عام 1350ه. وتشكل مجلس الشورى مرة أخرى في 5 المحرم 1351ه وأصبح يضم في عضويته الشيخ عبدالله الشيبي وعبدالوهاب عطار والشريف شرف رضا وعبدالوهاب نائب الحرم وحمزة غوث ومحمد القيربي واحمد الفاري وحسين باسلامة ويظل النائب الأول لرئيس المجلس الشيخ عبدالله الفضل أما النائب الآخر فيجري انتخابه من بين الأعضاء بالاقتراع السري وكان نظامه الأساسي هو النظام السابق وأضيف إليه العناية بشؤون الحج والحجاج ثم في العام نفسه أضيف إلى المجلس صلاحية تمييز الصكوك التجارية وذلك بموجب الإرادة السنية رقم (2620/1366) وبتاريخ 22 شوال 1351ه. ويبدو أن نجاح تجربة التفتيش والإصلاح شجعت الفيصل الذي أقنع المؤسس بضرورة تشكيل لجان وهيئات مماثلة ذات اختصاصات محدودة للمساعدة في سرعة إعادة تنظيم الجهاز الإداري للدوائر الحكومية في الحجاز ومن أهمها : لجنة الرقابة الإدارية على أعمال الشرطة في الحجاز التي تشكلت عام 1346ه وكان إبراهيم الصنيع رئيساً عليها فيما صدر أمر ملكي في 25ربيع الأول 1346ه بتشكيل لجنة رقابة إدارية للبحث والتدقيق في أمور المعارف وإدارة البرق والبريد والبلديات والشرطة وتم تأسيس تلك اللجنة في ذي الحجة 1347ه وفي أواخر جمادى الآخرة 1348ه تشكلت لجنة لدراسة المشاريع العمرانية حيث تضم عددا من موظفي الدولة لدراسة المشروعات العمرانية التي تحتاج إليها البلاد وهيئة المراقبة الإدارية التي تحولت إلى لجنة التحقيق والتفتيش عام 1349ه وكانت وظيفتها إجراء التفتيش على أعمال الدوائر المختلفة. تشكيل أربعة مجالس ومن هنا يمكن القول : إن السلطة التشريعية والتنظيمية مرت بعدد من التطورات أهمها: تشكيل أربعة مجالس ابتداءً بالمجلس الأهلي عام 1343ه وانتهاءً بمجلس الشورى الذي شكل وفقاً لنظام مجلس الشورى لعام 1346ه وكان اختصاص السلطة التشريعية خلال هذه المدة موزعاً بين الملك وحكومة الحجاز (النيابة العامة) ومجلس الشورى غير أن الملك كان في جميع الأحوال صاحب القول الفصل ولا يمكن أن تكون للتشريعات والأنظمة قوة النفاذ إلا بعد مصادقته عليها ومن خلال ما تقدم يتضح أن العمل الإداري كان مُركزاً في الحجاز ومُطوراً للخبرات الموروثة فيه لما لها من خبرات متوازنة في هذا المجال ووجود أجهزة إدارية احدث مما كان سائدا في بقية المناطق الأخرى في الجزيرة العربية فعمل على تطوير تلك الأجهزة وفق ما يحقق المصلحة العامة للبلاد ويحقق أيضا مبدأ مشاركة الأهالي الفعالة في تولي مسؤوليات الإدارة. فقام الملك عبدالعزيز بتأسيس المجلس الأهلي في مكةالمكرمة ليتولى تسيير الأمور فيها وليتولى إدارة شؤون البلاد ومساعدة الدوائر الحكومية التي كانت قائمة من قبل مثل الصحة والبلدية والأوقاف ثم توسع المجلس ليضم ممثلين لحارات مكةالمكرمة ومن علمائها وتجارها وليتولى من بعد ذلك شؤون البلدية والصحة والمحاكم الشرعية والأوقاف وشؤون التعليم والأمن والتجارة في مكةالمكرمة. وقد كانت الفترة التي عين فيها الفيصل نائبا عاما لجلالة الملك عبد العزيز رحمه الله في الحجاز.. من أهم الفترات التي رافقت أولى مراحل نضجه السياسي.. وبداية عهده بمسؤولية الحكم الملقاة على عاتقه نتيجة للثقة الكبيرة التي وضعها فيه الملك عبد العزيز, هذه المرحلة التي كانت بداية عهد الإصلاح الاجتماعي والسياسي للدولة السعودية.. والتي كانت الصعوبة فيها تكمن في البداية التأسيسية التي ألقيت على كاهل الفيصل بن عبدالعزيز رحمه الله وقد شهدت تلك المرحلة من حياته الكثير من الأعمال الكبيرة والجليلة التي تعد بمثابة اللبنات الأولى للسياسة الحكيمة التي ظل بها يقود شعبه من خلالها طوال حياته.