لكل إنسان قيمة وأثر، وليس كل أثر يستمر فقط الأثر ذو القيمة المؤثرة، وصفحات التاريخ ضمت شخصيات عظيمة أثرت مسيرة البشرية، وفقدان هذه النماذج يمثل كارثة للأمة فمن النادر جدا أن تحل صورة مكان صورة وانجاز مثيل لآخر، لكن هذه هي الحياة. ومن الشخصيات التي أثرت في مجتمعنا وأثرته معالي الشيخ الدكتور الراعي المسئول محمد عبده يماني رجل المواقف ورجل الخير ورجل القرآن الرجل الذي بكته مكة وبكاه كل من كان ضمن رعيته ورعايته. الجميع يموت والكل ينتظر رحيل كبير السن من هذه الدنيا الفانية، لكن موت كبير الأثر كبير المقام كبير السن كبير الخبرة واسع العلم من أكثر الألم للمجتمعات فهذا يعني فقد مكانة وفقد أداء وفقد مشورة وفقد ثقاة وفقد خبرة. هذا ما فقدناه برحيل معالي الشيخ الجليل محمد عبده يماني. لم يكن اليماني شخصية عادية كان استثناء في نسيج مجتمعنا. من لم يعرف اليماني كموظف رفيع في الدولة عرفه كرجل مجتمع، ومن لم يعرفه كمثقف وكاتب فقد عرفه كفاعل خير، ومن لم يعرفه كرجل مجالس فقد عرفه كواصل للرحم من الطراز الأول. كان اليماني رغم كبر سنه ومقامه إلا أنه كان يتعامل بمبدأ المؤمن المتبع لسنة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ). لم أعرف معالي الدكتور محمد عبد يماني شخصياً ولكني عرفته من خلال أخته السيدة الفاضلة فاطمة يماني التي كانت تتغنى به كأخ وعلى يديه حصلنا على الكثير في جمعية أم القرى الخيرية النسائية حين كنت ضمن مجلس إدارتها، وعرفته من خلال أعماله الخيرية التي كانت تمر من خلالي دون أن يعرف ذلك، وعرفته من خلال زوجي الدكتور زهير كتبي. كنت أسمع كثيراً من المكالمات بينه وبين زهير كان دائماً يردد كلمة ( يا رضي ) حين يتحدث إليه وكان دائم السؤال عنه والمعلق المخلص على مقالاته، لم استغرب ما حدث لزهير من حزن وبكاء على هذا الكبير لأنه كبير فعلاً بأخلاقه وأعماله وصفاته. لقد رحل الرجل وترك ذاكرة الزمان تتكلم بأقلام المثقفين ومحبيه في مجتمعه. كان اليماني رحمه الله تركيبة فريدة من نوعها اشتملت على عبق التاريخ المكي بكل رجولته وشهامته وكرمه ولين قلبه وحبه لمكة وأهل مكة، ورجل مرحلة شهد كل المتغيرات وعاصر الانفلات المعرفي بوسائل الاتصال الحديثة عاش عولمة الزمان وتفاعل مع العلم والمعرفة ووظفهما فيما يرتقي بتفكير المؤمن المفكر المتدبر. رجل استخدم المعرفة العلمية في زمن المتناقضات العملية. حين ذهبت للعزاء لم أستغرب الجمهرة النسائية الموجودة والتي جاءت تعزي أهل هذا الكبير. وحين امتلأت الصحف بالكتابة عنه لم اندهش لهذا التأبين التظاهري على شخصية اليماني كان الجميع يريد أن يقول كلمة عن أخلاق وصفات رجل الدولة ورجل اليد الكريمة والمفكر الإسلامي والمثقف ، والحقيقة أن أجمل ما جاء فيما كتب عنه رحمه الله اتفاق الجميع على أخلاقه وعلمه ووفائه وحبه لعمل الخير وأدب التعامل والتواصل. إن ما كتب عن اليماني يضع أمام الباحثين الاجتماعيين وكاتبي السير والتراجم شخصية غنية يمكن تناولها من عدد من الجوانب، وتاريخه يمثل حراكاً اجتماعياً يمكن من خلاله دراسة مرحلة اجتماعية أنا على يقين أنها رصدت بين أوراقه الشخصية التي جمع فيها الحالة الاقتصادية لبعض فئات المجتمع والتي لا يمكن تجاوزها ضمن عناصر المرحلة في التاريخ الاجتماعي. رحم الله معالي الدكتور محمد عبده يماني وأسكنه أعلى درجات جناته، وجعل من نصيبه كل دعاء ارتفعت به أيدي البسطاء وكتبته أقلام الأصدقاء، ونشجت به حناجر الأوفياء. (إنا لله وإنا إليه راجعون).