فوجئت في الأسبوع الماضي بأحد الأصدقاء يوجه لي الدعوة لمشاركته الاحتفال بمناسبة احالته إلى التقاعد من عمله الذي قضى فيه أحلى سنين عمره. وأقول فوجئت لأن الناس هنا تعودوا أن يصابوا بالاكتئاب عندما يحالون إلى التقاعد .. فهم سيعتزلون الحياة العملية .. وسيتوارى ظهورهم .. ويلازمون بيوتهم .. وتبدأ الأمراض في مداهمتهم شيئاً فشيئاً .. وكل الذي حولهم رماد .. وكل الذي يرافقهم هو الصمت. فالاحالة إلى التقاعد هنا تعني ان الإنسان أصبح قريباً من الموت .. وأنه يجب أن يواصل الوداع .. ويلوح بمناديله ويبتعد عن مشاركة الآخرين أفراحهم .. ومناسباتهم السعيدة .. فكل الذي في نفوسهم الانتظار للرحيل من الحياة الدنيا. ولهذا فقد فوجئت بدعوة صديقي مشاركته الاحتفال بمناسبة إحالته إلى التقاعد .. ولعلها المرة الأولى التي أجد فيها من يريد الاحتفال بانتهاء سنوات عمله والاحالة إلى التقاعد .. فقد تعودنا أن نبادر بكلمات المواساة .. والتشجيع .. والمؤازرة .. في مثل هذه المناسبة وليس الاحتفال على الاطلاق!!. بل إن الناس غالباً ما يقولون: مسكين فلان أحيل إلى التقاعد .. الله يعينه .. وكأنها مصيبة قد حلت بذلك الشخص. يحدث هذا هنا .. في وقت يشعر فيه الناس في كل العالم الخارجي بالفرحة فعلاً من التحلل لكثير من المسؤوليات .. والالتزامات .. والارتباطات .. في وقت يصبح فيه الشعور بالراحة هو أغلى ما يهيمن على الإنسان المحال إلى التقاعد .. بل إن الذين يقتربون من بلوغ سن التقاعد يعملون في نشاط من أجل الاعداد لحياة ما بعد التقاعد .. ويعتبرونها فترة ثرية للاستمتاع .. والعمل الخاص .. والتأمل في أشياء كثيرة لم تتح فيها الفرصة ابان أيام العمل لتأملها والتعامل معها. وهناك فعلاً يحتفلون بالمناسبة ويعتبرون التقاعد هو المرحلة الفعلية للاستمتاع وتسخير التجربة الطويلة للتخطيط من أجل استثمار الفراغ لشغله بكل مفيد .. ومثمر .. ومنتج. وفي أمريكا تحديداً وجدت صوراً مذهلة لصور الحياة التي يمارسها المتقاعدون في شتى أماكن الترويح عن النفس .. والعمل بصورة جادة .. والمشاركة في الكثير من ألوان الأنشطة .. ويشعر الإنسان وهو يتابع هؤلاء بأنهم في كامل نشاطهم وحيويتهم وسعادتهم .. وهم قطعاً لا يفكرون بذات ما نفكر فيه نحن هنا .. فهم على قناعة بأن الموت لا أحد يستطيع أن يحكم بوقت مجيئه .. ونحن نؤمن بأن الموت قد يأتي قبل العمل .. أو أثناء قمة ممارسة العمل .. وقد يعيش الإنسان زمناً طويلاً بأمر الله .. ولهذا فعلى الإنسان (أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً .. ولآخرته وكأنه يموت غداً). وأعود لصديقي الذي احتفل بمناسبة احالته إلى التقاعد وقد سألني: لماذا لا نتعامل مع مرحلة ما بعد التقاعد بذات الوعي والفكر والروح التي يعمل بها الناس في انحاء الدنيا فنحتفل بهذه المناسبة .. ونقبل على ممارسة نشاطنا .. وركضنا .. بسعادة بالغة .. وبنفس واثقة .. فالحياة تقبل على الإنسان السعيد .. والسوي .. أنساً وطيباً!!. آخر المشوار قال الشاعر: دع الأيام تفعل ما تشاء وطب عيشاً إذا حكم القضاء