قدموا وقد لبسوا القناع قدموا وأنشودة الذئب ترتسم على أوراق شفاهم الزرقاء مابين الزحام والضياع ، بعضهم يحمل الأحداث في جعبته والبعض ممسوخ الشعاع قدموا من كل حدبٍ وصوب يسيرون بأقدامهم البطيئة كانت جيوبهم منتفخة كبطونهم .. جاؤوا لتقديم الواجب ونسوا أو تناسوا هول المكان وهيبته كانت المقبرة أمامهم متسعة وفسيحة وكان رذاذ المطر يداعب عشب تلك القبور المفتوحة ويدعو لمن فيها بالرحمة . العيون جريئة تلامس بعضها بانفعال وبجوع وعطش شديدين .. آخر ماكان يعنيهم أن يكون أحدهم في واحد من تلك القبور النائمة بأعينها نحو السماء جميعهم كانوا ينتظرون من كان بالأمس القريب بينهم واليوم أخذته يد المنون وانتشلته أعين القدر .. ترى المصيبة مرسومة على تلك الأوجه الطيبة من أقربائه .. أما الآخرون فلاهم لهم إلا بالخوض في أمورهم الفانية مجموعة منهم تشارك بعضها في تلك الأحاديث التي روتها إحدى الصحف الملونة عن موضوع الأصالة والحداثة وأخرى تتحدث عن ارتفاع أسعار العقار خاصة في المنطقة المركزية وضرورة الاستثمار فيها ونمو نسبة العائد الاقتصادي المربح المتوقع منها وآخر بعيد عن المجموعة يداعب عبرهاتفه النقال أزهار حديقته التي ارتوت من مياه ساكنة نتنة وهو يقبع تحت ستار نظارته السوداء وجلبابه الحريري الأبيض بكلمات تتفتق على أيديها كل الورود وحروف يخجل منها الياسمين حينما يحاور عطر فلّة وريحانة .. دخلت الجنازة بهو المقبرة الرئيسي وتحرك كبار الأقرباء المنتظرين نحوها وحولها ولم تتحرك عواطف الحشد الكبير .. سارت بكل هيبتها إلى مثواها الأخير .. قام أحدهم وجلس قرب صديقه الذي لم يره عقداً من الزمن وهمس في أذنيه بأن يكون الليلة في داره العامر فالعشاء سيكون فاخراً كوجهه واللعبة ستكون حاسمة .. وقفوا بعد ذلك على مضض .. الكل يناظر الآخر .. ومضوا بأجسادهم البدينة المرهقة يقدمون واجب العزاء وخرجوا من تلك المقبرة وجيوبهم كما كانت منتفخة كبطونهم تاركين رذاذ المطر ورحمته حاملين معهم على صفحات شفاهم التي أسقمها التبغ إبتسامتهم التي لم تغب عنهم .. تركوا المقبرة كعادتها وهي متسعة وفسيحة تركوها بكل فرح وأعينهم لم تدمع وقلوبهم لم تخشع ولم يشاركوا مقبرة الإنسان شموخها وكبريائها وحكمتها خرجوا إلى مركباتهم الفارهة على أمل اللقاء فهل سيكون بعد ذلك لقاء ؟ .. أم سيقفز الهواء الضرير بأنفاسه المكتومة معهم ليرقدهم في مكان صغير مهملٍ لا ضوء فيه ولا ماء !!! . ومضة :- من شعر محمود درويش : إن جئتِ أُغنيتي ولم تجدي صراخكِ فاعلمي أني كذبتُ على الصدى . إن جئتِ أُغنيتي ولم تجدي نهايتها أحبِّيني قليلاً كي تحبِّيني سدى . إن جئتِ أُغنيتي ولم تجدي بدايتها أعيدي زهرةَ البيت الأخيرة للندى في آخر الأشياء نعلم أننا كنا نحبُّ لكي نحبّ .. ونكسر