وجه منطفئ يوشك أن يرحل عن خيوطه فقد انحنت فوق جذعه كل أوراق الصبّار التي تروى بماءٍ عكر فقد جاء يجر أطياف بلائه كعادته كل ليلة يحمل معه جسده الضخم يبحث عن مجلسه وبتعطش شديد عن أي قضية أو حوار يلهث إليه أو عليه ويبدأ بتوزيع معرفته الضيقة الأفق على من يعرف ومن لايعرف فهو العارف بكل شيء والعازف على أي شيء فهو في نظر عينيه الهادئتين المتورمتين وشاربه الهتلري المنثور على شفاه غاضبة أسد جاسر يبحث عن طريدته التي هدها الإعياء فتخلفت عن القطيع فيراها فرصة سانحة ليتجاذب معها أطراف الحوار ولكن أين المنطق في ذلك ؟ .. وأين التكافؤ .. ؟ فقد أبحر في يوم من الأيام وفي إحدى ليالي الشتاء الرومانية القارسة البرودة والمعتقة صياد عجوز ضاقت به اليد والحيلة فلم يجد أمامه إلا ركوب البحر . كان قاربه خشبي الصنع سيء المزاج والجودة وكان يبحث عن مايجود به البحر والبحر كبير دائماً في طبعه وجوده كانت أمنيته لاتتعدى بضعة أسماك ولم يكن يعلم حينها بأن القدر لم يكن بجانبه .. رمى بشبكة صيده المهترئة وهو في عرض البحر فخرجت له عدة أسماك صغيرة تراقصت أمام عينيه بحزن شفقي شديد وخوف سرمدي طائش تكسرت أمواجه على شفاه طفل يتيم وطلبت منه أن يتركها وشأنها لأنها لم تنمو بعد فأستجاب لذلك وبينما هي شاردة عيناه إلى الأفق البعيد حط بجواره على قاربه غراب البين فزع لذلك فطمأنته الكتلة السوداء بأن يبحر صوب الشمال عدة عقد بحرية فقد رأى هنالك أسماكاً تتراقص فوق الماء من كثرتها وفرحتها ونشوتها فأستجاب لذلك حتى غاب الشاطئ عنه ونام كل شيء منه واستدار الصياد بعد أن هده التعب إلى غراب البين ليسأله عن الفترة الزمنية المتبقية لرؤية أسماكه التي حكى عنها فوجده يغط في نوم عميق فصاح فيه ومنخاره قرب منقاره أين الأسماك يا أسود الوجه فأخبره بانها هناك فوق تلك التلة وقرب تلك الجزيرة وطار الغراب عائداً إلى موطنه بعد أن شكر الصياد على فعلته فاشتد غضب الصياد ولم يهدأ حتى عرف من طائر النورس أن عشيقته الثكلى تنتظره بوله لايوصف على الشاطئ ... فمن قال لا فقد أفتى كلمات من رحيق الورد ترتاح لها النفس البشرية السوية وتستكين بها وتستريح منها وعليها . وتلك لعمري بداية القصيدة التي يسكن القلب فيها وتتوارى خلفها كل تجاعيد الفتن !! . ومضة :- من شعر محمود درويش : يا دامي العينين ، والكفين ! إن الليل زائلْ لاغرفةُ التوقيف باقيةٌ ولا زردُ السلاسلْ ! نيرون مات ، ولم تمت روما... بعينيها تقاتلْ ! وحبوب سنبلةٍ تموت ستملأُ الوادي سنابلْ !