قبل نصف قرن من الزمن، عندما كنت في العاشرة من عمري، كان الناس في مكةالمكرمة، قبل أن يحل عليهم شهر رمضان المبارك، يتبادلون التهاني فيما بينهم ويرفعون أيديهم للبارئ عز وجل، يسألونه أن يبلغهم رمضان، كما بلغهم رجب وشعبان، كما كانوا يستعدون للشهر الكريم، بما وهبهم الله إياه من تراحم وحب ومودة تربط مجتمعهم، فتجد الأغنياء والأثرياء يساعدون ويعطفون على الفقراء والمحتاجين، وخاصة من يعيشون في الأربطة ودور الأيتام، وإذا ما حل الشهر الكريم، تجدهم، يعيشون أجواء روحانية عالية في تلك الحقبة من الزمن، فتجدهم وقد استعدوا للشهر بالقرآن الكريم، فكانوا يتنافسون لختم المصحف الشريف في منازلهم ومساجدهم، كما كانوا يهتمون بتعليم أبنائهم صيام هذا الشهر الكريم، فيعودونهم على الصوم منذ وقت مبكر جدا، وأتذكر أن أمي عودتني وعلمتني الصوم وأنا في الخامسة من عمري، كما كان الناس، يؤمنون قوتهم اليومي من المأكولات الرمضانية الشهيرة، قبل دخول الشهر، والبعض لا يبالي فكان يؤمن قوته يوميا، ومن تلك المأكولات الشهيرة، والتي لايزال بعضها مستمرا حتى يومنا هذا: طبق الفول الشهير بسلطة الكزبرة المشهورة، وكذلك السمبوسة، وشوربة الحب والقطايف، كما كانوا يتناولون شراب السوبيا وشراب التمر هندي ( الحمر) وشراب الزبيب، لخاصية هذه المشروبات الباردة وخاصة في وقت الصيف. كما كان الناس في رمضان يعشقون طبق اللحوح الممزوج باللبن. وكذلك صحن الكنافة بالجبن البلدي. أما صلاة التراويح في المسجد الحرام، فكان أهالي مكةالمكرمة، يقبلون عليها إقبالا شديدا، كبارا وصغارا، شيبا وشبانا، فكان الناس ينصتون للشيخ الخليفي وهو يصدح بالقرآن الكريم، في جنبات المسجد الحرام، الذي كان يعج بالمصليين من أهالي مكةالمكرمة، كما كان يؤم الناس في تلك الفترة الشيخ عبد المهيمن أبو السمح، في صلاة الفجر، والشيخ عبد الله خياط في صلاة الجمعة. رحمهم الله جميعا. كما كان أهالي مكةالمكرمة يهتمون بأداء عمرة رمضان، من التنعيم ومن الجعرانة، ولم نعرف المعتمرين من خارج المملكة إلا بأعداد نادرة، وصغيرة، فمعظم من يأتون لأداء العمرة، كانوا يأتون من جدة والمدينة والطائف ومنطقة نجد، كما كان الناس بعد صلاة العصر وحتى قبل صلاة المغرب يتحلقون في حلقات علماء المسجد الحرام في تلك الفترة، ومنهم، الشيخ علوي عباس المالكي، رحمه الله، والشيخ محمد نور سيف والشيخ العربي التباني والشيخ محمد أمين كتبي رحمهم الله أجمعين. أما الزمازمة، فكانوا يقومون بعملهم، فنجدهم وقد اهتموا بفرش (الحصوة) التي يشرفون عليها، بفرش يدعى (الحنابل)، كما كانوا يغرسون في حجارة الحصوة، دوارق ماء زمزم التي كانت تحصل على برودتها من الجو المحيط بها، بينما نجد في زوايا الحصوات بعض الزمازمة الذين يعملون على تبريد ماء زمزم بالثلج، ويبخرونه بالمستكا.. وبعد الانتهاء من صلاة التراويح كان الناس يتسامرون فيما بينهم، فلم تكن في تلك الأيام فضائيات أو تليفزيونات، وكان (الراديو) وسيلة الترفيه الإذاعي الوحيدة مع العالم، وخاصة الإذاعة المصرية التي كانت تبث برامج خاصة بشهر رمضان ومنها برنامج: (ألف ليلة وليلة) (وعائلة مرزوق أفندي) (وعلى الناصية) . كما كنا نستمع إلي برامج (إذاعة القرآن الكريم من مكةالمكرمة)، ومنها فوازير رمضان للأطفال، وبرنامج (كلمة ونصف) للأديب الكبير محمد حسين زيدان رحمه الله، وبرنامج الأطفال لبابا عباس فائق غزاوي رحمه الله. وبعد أن ولج منازلنا التليفزيون، كنا نشاهد برنامج (على مائدة الإفطار) للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، والذي استمر حوالي خمسة وعشرين عاما، وكان يخرجه الأخ الإعلامي المتميز، الأستاذ عبد الله رواس أطال الله عمره، كما كنا نشاهد البرنامج الفكاهي (تحفة ومشقاص) لحسن دردير، والذي توقف منذ أكثر من ثلاثين عاما تقريبا. أما نادي الوحدة، فكان يشرع أبوابه للمحاضرات الثقافية الرمضانية، حيث اهتم بهذا الجانب الأستاذ عبد الله عريف الأديب المعروف ورئيس النادي في تلك الفترة رحمه الله، كما كانت تقام في النادي دورات كرة القدم الرمضانية، فكان مرتادو النادي، يشاهدون الأستاذ زاهد قدسي رحمه الله وهو من أسس للرياضة في بلادنا، كما كنا نشاهد أعضاء مجلس إدارة النادي في تلك الفترة، الأستاذ حسن نقيطي والأستاذ صالح عبد المالك، والأستاذ عبد العزيز السميري والأستاذ صالح فلمبان، والأستاذ بكر بابصيل، وكان يأتي للنادي بصفته مديرا لمكتب رعاية الشباب، الأستاذ محمد رمضان، كما نشاهد اللاعبين القدامي أمثال حسن دوش وسليمان بصيري ولطفي وسعيد لبان وعابد شيخ ودخيل عواد وكريم المسفر وأحمد أوزة وسعود حريري وعبد العزيز ومحمد لمفون غيرهم. كما كانت مقاهي (حوض البقر) تقيم دورات رمضانية، فتجد شباب مكة يرتادونها في هذا الشهر الفضيل. وإذا ما هلت علينا العشر الأواخر، تجدنا وقد استعددنا لها بكثرة الذكر وقراءة القرآن، وخاصة ليلة ختم القرآن الكريم والتي تجذب إليها عشرات الألوف من أهالي مكةوجدة ، ليحضروا هذا الحدث العظيم. كما كان الكثيرون بعد التراويح، يتجولون في الأسواق، وخاصة سوق (سويقة) الملاصق لحي الشامية، ليشتروا حاجياتهم للعيد، كما كنا نهبط إلى مدينة جدة مع أخينا الأستاذ فيصل مداح، لنشتري (حذاء) العيد أو (جزمة) العيد، وذلك من شارع قابل الشهير، حيث كنا نتناول طبق البليلة في ذلك السوق، ثم نبرد لهيب شطتها التكروني، بتناول شراب التمر الهندي أو البرتقال، من عصارة كانت موجودة عند مدخل السوق. ولا أدري إذا كانت هذه العادات موجودة حاليا في جدة في شارع قابل أم لا!. لأني لم أذهب لهذا السوق منذ ثلاثين عاما... وأقول كنا ننزل لجدة مع فيصل مداح، لأن عائلته كانت تملك سيارة فورد، يسوقها أحد الجاويين، وكانت تلك السيارة واحدة، من ثلاث أو أربع سيارات يمتلكها أشخاص في حارة الشبيكة في تلك الفترة!!. وها نحن نعيش الأجواء الرمضانية هذا العام، وقد تغيرت الدنيا ، فلم تعد هناك حارة الشبيكة ولا حارة الباب ولا حارة باب العمرة ولا الشامية، ولا السوق الصغير، وليس هناك (حصاوي) الحرم، ولم يعد هناك مشايخنا رحمهم الله، لقد تبدلت الدنيا بدنيا غيرها، وذهب أناس ليأتي غيرهم، وهذه سنة الحياة، وها هي مكة تكتسي ثوبا جديدا متطورا، سنتناوله بالتفصيل في مقالات قادمة إن شاء الله، ويا أمان الخائفين.