أكد إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم على أهمية سيادة مبدأ المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن في جميع شؤون الحياة ، لافتا في خطبة الجمعة أمس إلى أن المحاورة أسلوب راقٍ ووسيلة مثلى توصل إلى الغاية بكل أمن وطمأنينة وأدب. وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام :في الليلة الظلماء يفتقد البدر وفي يوم الحر الشديد يستجلب الظل وفي خضم الفتن والخلافات التي تموج كموج البحر وإعجاب كل ذي رأي برأيه وهيجان الإسقاط الفكري والعلمي والثقافي والإعلامي يبحث العاقل فيها عن قبس نور يضيء له ويمشي به في الناس أو عن طوق نجاة يتقي به أمواج البحر اللجي الذي يغشاه موج من فوقه موج من المدهمات والزوابع التي تجعل الحليم حيران وإننا في هذه الآونة نعيش زمناً تكاثرت فيه الوسائل المعلوماتية وبلغت حداً من السرعة جعلت المرء يصبح على أحدث مما أمسى به ثم هو يمسي كذلك . وأضاف إنها ثورة معلومات وبركان من الثقافات والمقالات والمطارحات التي اختلط فيها الزين بالشين والحق بالباطل والقناعة بالإسقاط القسري حتى أصبح الباحث عن الحق في بعض الأحيان كمن يبحث عن إبرة في كومة قش وهنا تكمن صعوبة المهمة وتخطر التبعة وربما لم يعد أسلوب الأمس يلاقي رواجا كما كان من قبل وذلك لطغيان المشاحة وضعف الوازع ما يجعل اسلون المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن سبيل أقوم في هذا الزمن وبخاصة في مجال التربية والإعداد والنصح والتوجيه والنقد والخصومة . وأوضح أن لكل زمن وسيلته التي توصله إلى الغاية الأمس واليوم ولا يعني هذا أن ما مضى كان خللا كما أنه لا يلزم أن الحاضر هو الأمثل وإنما لكل مقام مقال ولكل حادث حديث ولقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين قال( إذا عرف الحق سلك اقرب الطرق في الوصول إليه) ربما كان الإسقاط والإلزام دون محاورة أو تعليل أسلوبا سائدا في زمن مضى قد فرض تواجده في الأسرة والمدرسة ومنابر العلم والفكر والإعلام وربما كان مقبولا إلى حد ما لملائمة تلك الطبيعة والمرحلة للمستوى الخلقي والمعيشي والتربوي والعلمي وما ذاك الا لسريان مبدأ الثقة والاطمئنان بين المجموع وهي في حينها أدت دورا مشكور وسعيا مذكور كان مفهوم التلقين فيها أمرا إذا كان الملقن هو الأعلى وربما صار ندبة وطلبا إذا كان الملقن هو الأدنى وقد يكون في حكم الالتماس إذا كان الطرفان متساويين . بيد أن المشارب في زمننا قد تعددت والطرق الموصلة قد تفرعت ما بين موصل للغاية أو هاو بسالكها إلى مكان سحيق أو سالك عوراً على شفى جرف هار قد بين ذلكم بأوضح عبارة واجمع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث رواه عنه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال. هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمين الخط ويساره وقال هذه سبل على كل سبيل منه شيطان يدعو إليه ثم تلى ) وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله يعني الخطوط التي عن يمينه ويساره . وقال فضيلته “ومن هذا المنطلق كله يأتي الحديث بشغف عن الحاجة إلى سيادة مبدأ المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن في جميع شؤون الحياة كما علمنا ذلك ديننا الحنيف وكان رائدنا فيها كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم . فالمحاورة أسلوب راقي ووسيلة مثلى توصل إلى الغاية بكل امن وطمأنينة وأدب . لان اختلاف الناس وتفاوت عقولهم وإفهامهم وأحوالهم النفسية تفرض طرق هذا المبدأ في زمن كثر فيه الجشع وشاعت به الفوضى وأصبح التافه من الناس يتكلم في أمر العامة . وأشار فضيلته إلى أن المحاورة تبادل حديث بين اثنين أو أكثر يقصد به إظهار حجة أو إثبات حق أو دفع شبهة أو رفع باطل في قول أو فعل أو اعتقاد وهي أسلوب معتبر في الكتاب والسنة فكتاب الله به عشرات الآيات حاءت متضمنة معنى المحاورة والسنة المطهرة مليئة بهذا الأسلوب المنبعث من الخلق النبوي الهادف إلى هداية الناس والحرص عليهم والرحمة بهم . وان أي مجتمع يربي نفسه ونفوس بنيه على ايجادة إيصال الفكرة إلى الغير بإقناع ناتج عن محاورة وشفافية كما يقولون ومجادلة بالتي هي أحسن لا بالتي أخشن .فستصل الفكرة بكل يسر ووضوح لا يشوبها استكبار وإذا لم تكن نتيجة ايجابية فلا اقل من أن الحجة قامت والذمة برئت . والحكم هو الحكم والحق هو الحق لن يتغير سواء أكان بمحاورة أم لا ولكن التغير إنما يكون في القناعة بالحكم وفهمه والرضا به ومعرفة حكم الشارع ومقاصده . وبين أن المحاورة لا تعني بلزوم اقتسام النتيجة بين المتحاورين كما أن الوسطية لا تعني التوسط بين أمرين لان الوسطية هي العدل والخيار الذي لا ميل فيه لطرف دون طرف بل أنى وجد الحق فهو الوسط وان كان ادعاؤه طرفين لا ثالث لهما وهذه هي الغاية المرجوة من المحاورة ومن جادل بالباطل ليدحض به الحق فقد قال الله عنه (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) لقد امتازت المحاورة في شريعتنا الغراء بأنها عامة في جميع شؤون الحياة ابتداء من أمور الاعتقاد وانتهاء بتربية الأطفال.فمن أمثلة ما جاء في أبواب الاعتقاد محاورة كل نبي لقومه ومجادلتهم بالحسنى طمعا في هدايتهم إلى صراط الله المستقيم. وأفاد فضيلة إما وخطيب المسجد الحرام أن المحاورة بالحسنى خير سبيل موصل إلى الحق والرضا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . فحينما تستحكم الشهوة على فؤاد المرء ويشرئب قلبه إلى المعصية فان مجرد النهر والزجر بعيداً عن أسلوب المحاورة الكفيل بنزع فتيل الإغراق في حب الشهوات لا يحصد من الفوائد ما تحصده المحاورة ذاتها . وللمحاورة في إزالة غشاء الظن والشك ما بجدر أن تكون محل نظر كل صادق منصف حريص على سلامة قلبه وذمته فكم زال من الظن السيئ بأهله بهذه المحاورة فقطعت دابر الشك وأغلقت باب الفرقة الأسرية وكم هو عظيم اثر الطمأنينة حينما يحسن المرء استجلابها بمحاورة هادئة هادفة حاديها الإخلاص والبحث عن الحقيقة بعيداً عن التنابز . واختتم فضيلة خطبتة بقوله أن “في تربية الأطفال يكون للمحاورة من الأثر والوقع على النفس أكثر من مجرد التلقين والإسقاط القسري. وان المحاورة لا تعني تهميش المرجعية الشرعية كما أن الدعوة إليها لا تعني أن تكون كل محاورة سبهلل بلا زمام ولا خطام بحيث تطغى على الحقوق والحرمات وتكون المحاورة تكأة لكل متشفي لاسيما حين يطال ذلكم مقامات لها في الاحترام والمرجعية والتقدير ما يستقيم به الصالح العام ولا يفتح باباً للفوضى والرمي بالكلام كيفما اتفق . ويشتد الأمر خطورة حينما يكون ذلكم عند الحديث عن العلماء والولاة الشرعيين من خلال جعل بعض المحاورات كلاً لمنابذتهم ومنابزتهم وقد جعل لهم الشارع الحكيم من الحرمة والمكانة ما تعود مصلحته على امن واستقرار المجتمع بعيدا عن الإرباك والإرجاف بالمنظومة العلمية والقيادية. وفي المدينةالمنورة أكد فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ عبدالمحسن القاسم في خطبة الجمعة أمس أن الدنيا لم تصف لأحد فهي دار بلاء ولذاتها مشوبة بالأكدار وأمرها لا يدوم على حال مستدلا بقوله تعالى في محكم تنزيله ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ))لافتا الانتباه إلى أن الإنسان يسعد تارة ويحزن اخرى ويعتز حينا ويذل حينا . وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن أشد الناس بلاء وكرباً في الحياة هم الأنبياء حيث لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما لاقى منهم فيها شدة ومكرا واستكباراً 'مضيفاً كما أن أبراهيم عليه السلام ابتلى بذبح ابنه إسماعيل ففداه الله بذبح عظيم وأوقد قومه ناراً لإحراقه فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم نشأ يتيماً ومات جده ثم مات وجيهاه في الدعوة أبو طالب وخديجة في عام واحد وأسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم الى بيت المقدس وعرج به إلى السماء السابعة ثم عاد من ليلته إلى مكة وأخبر قريش الخبر وخشى ألا يصدق فلا يؤمنوا ففرج الله عنه كربه ورفع الله له بيت المقدس ينظر إليه مايسألونه عن شئ إلا وأجاب . وقال فضيلته بعد ذلك إن الدين وصل إلينا بعد عناء ومشقة فلقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من شدة الوحي مالاقى فكان إذا نزل عليه الوحي ينكس رأسه ويتفصد عرقه من جبينه في الليلة الباردة واشتدت كربات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته من أذى قومه له وسمه وسحره والكيد به وموت أبنائه . وتابع الشيخ القاسم ولاتزال كروب الدنيا بالإنسان حتى تنزع روحه قال أنس رضى الله عنه ( لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَمَّتْهُ فَاطِمَةُ إِلَى صَدْرِهَا ، وَجَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ ، وَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ تَقُولُ : يَا كَرْبَاهُ لِكَرْبِ أَبَتَاهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “ لا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ “) أي من كروب الدنيا وإذا انقضت محن الدنيا بالموت فسيلاقي الخلق كربا قادما شديدا عليهم وهو يوم القيامة فالإنسان في بلاء وشدة حتى يضع قدمه في الجنة . وانتهى فضيلته إلى القول إن الصدقة والبر وصلة الرحم سبب في زوال المحن والله سبحانه وتعالى وعد عباده بالفرج بعد الشدة وإذا اشتد الكرب لاح الفرج وحسن الظن بالله واجب والتفاؤل بزوال مانزل من المصائب من حسن المعتقد واختيار الله لعبده أرحم من اختيار العبد لنفسه.