تحدث د. سعيد أحمد عنايت الله المدرس بالمدرسة الصولتية بمكة المكرمة في الحلقة الثالثة ضمن سلسلة (الدين النصيحة) عن شروط الأخذ مِنْ السُّنَّةِ فقال: ينبغي أن يُعْلَمَ بأنَّ هناك مِنْ ثوابت الدين، ومسلمات الإسلام، التي لا يسع فيها الخلاف، فلا تعددية فيها، ولا تعديل، ولا تبديل، فإنَّ أعلمَ الناس بنصوص الوحي الرباني، وبمدلولاتها مَنْ أَنْزَلَ الله عليه وحيه، وأنزل عليه بيانه، والذي بينه للناس، وقد تلقتها منه الصحابة - رضوان الله عليهم -، وتمسكوا بها عقيدةً وسلوكًا، والأمة منذ صدرها الأول إلى يومنا هذا قد توارثتها عِلْمًا وعملاً. ومِنْ ثوابت الدِّين الإسلامي ومُسلماته التي لا تبديل فيها أمور أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم الذين أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم، وجعل سنتهم سنته، فإجماعهم حجةٌ قاطعةٌ، لا يجوز لأي فرد مِنْ الأمة الانحراف عنه، ومِنْ ثَمَّ لا يجوز لأحد كائنًا مَنْ كان حَمْلُ نصوص الوحي على غير المفاهيم المعنية المحددة والمتوارثة لدى المسلمين، سواء أكانت تلك الأمور مِنْ المعتقدات، أو مِنْ العبادات، أو مِنْ السلوك، أو المعاملات. فمفهوم الإيمان بالله وتوحيده في ذاته وصفاته مُبَيَّنٌ ومُحَدَّدٌ، وكذلك مفهوم الإيمان بالرسل والأنبياء - صلوات ربي وسلامه عليهم -، وكونهم مهبطًا للوحي الإلهي، وكونهم معصومين. وإنَّ رسالة النبوة الرَّبَّانية والوحي الإلهي؛ قد انقطعت سلسلته بعد “خاتم النبيين” - صلى الله عليه وسلم -، فلا نبي ولا رسول بعده، ولا شريعة بعد شريعته، وكل ذلك مُبَيَّنٌ ومُحَدَّدٌ، فلا يقبلُ التبديل ولا التعديل. ومفهوم الجنة والنار كما وصفهما الكتاب والسَّنَّةِ مُبَيَّّنٌ ومُحَدَّدٌ، ومفهوم الإيمان بالكتب الربانية وآخرها القرآن الكريم مُبَيَّنٌ ومحدد. ومفهوم الصلاة وكونها خمسًا، وكيفية أدائها مِنْ قيام وركوع وسجود وغيرها، كل ذلك مُبَيَّنٌ ومُحَدَّدٌ، ومفهوم الحج، وكيفية أداء مناسكه، وأماكن أدائها كل ذلك مُبَيَّّنٌ ومُحَدَّدٌ. وكذلك الإيمان بالآخرة مُعَيَّنٌ بأنَّ المراد به يوم الجزاء، ونحوهما مِنْ الأمور مُتعينة المراد، محددة المفهوم، المتوارثة لدى الأمة المسلمة، فهي مِنْ الأمور الثابتة؛ فلا يجوز لأحد أنْ يُبدلها، أو يُجَدِّدَ فيها، ويضع لها مفاهيم أخرى جديدة خلافها، بل يعتبر هذا تحريفًا في مدلول آيات الله، وانكارًأ للمُجمع عليه، وتبديلاً لما هو ثابت معلوم مِنْ الدِّين ، فإذا حدث ذلك مِنْ أي شخص كائنًا مَنْ كان، وتحت أي مسمى؛ فإنه يعتبر إلحادٌ في آيات الله، وصدٌّ للناس عن سبيل الله. فمَنْ ارتكب ذلك في تاريخ أمتنا، وفي أي عهد من العهود؛ فقد أجمع المسلمون على مرتكبه بالخروج مِنْ الملة، وتكون عداوته للإسلام أشد مِنْ الكفر الصريح، وأعظم خطورة منهم؛ لأنه يريد القضاء على الإسلام بالقضاء على مُسلماته وثوابته، وما توارثته الأمة عقيدةً وسلوكًا ومنهجًا، وكل ذلك يفعله - زعما منه - باسم الإسلام. فليعلم الجميع أنَّ الخلاف في المُجمع عليه؛ خروج عن دائرة الملة، وحمل نصوص الوحي المحددة المراد مِنْ قِبَلِ الشارع على غيره؛ كُفْرٌ بذلك الوحي، والكُفْرُ بوحي الله؛ خروج عن دائرة الملة. وعلى هذا فلا مجال للخلاف في أمور هي مِنْ ثوابت الدين، ومسلمات الإسلام، ولا تعددية فيها، ولا خير في هذا الخلاف لأي شخص أو جماعة في دلالته. وقد وحَّدَ الشارع عليها الأمة المسلمة، وجعل لها كلمة واحدة، وسوف نسوق أمثلة للتحريف في المسلمات لبعض مَنْ قام بذلك باسم التجديد؛ ليتضح للأمة حقيقة أمر هؤلاء، وصحة الفتاوى الصادرة في شأنهم مِنْ قِبَلِ الأمة المسلمة بخروجهم عن دائرة الإسلام، سواء أكانت هي فتاوى الجهات الإسلامية الرسمية كرابطة العالم الاسلام، أو المجمع الفقهي، أو إدارة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية، أو قرار البرلمان الباكستاني، أو غيرها. فلا ينفع قول “لا إله إلا الله” باللسان مَنْ أبطلها بتحريفه في مُسَلَّمَاتِ الدِّين. ولا تنفع الصلاة أو الصيام أو بناء المساجد؛ مَنْ أنكر الوحي بحمل نصوصه على غير محمل الشارع له، أو الانحراف عمَّا أجمعت عليه الأمة الإسلامية. نعم ... لا بأس بالخلاف المسوغ، أو التعددية في الأمور المجتهد فيها، والتي يسع الاختلاف فيها. فإنَّ الانحراف عن المحدد شرعًا؛ تفريط في باب الدين، وتحرير مِنْ قيوده، وهذا أمر مبغوض عند الله، وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعند سائر المسلمين؛ لما فيه مِنْ تفريق كلمة المسلمين، كما أنَّ الإلزام بخط اجتهادي واحد في المُجْتَهَدِ فيه؛ إفراط في الدِّين، وغلو وتَشَدُّدٍ فيما يَسَعُ فيه الخلاف، وهذا ممَّا يَذُمُّهُ الإسلام. فالخلاف في ثوابت الدين نقمةٌ للفرد، وفرقةٌ وشقٌ في صفوف المسلمين، أما الخلاف في المُجْتَهَدِ فيه فهو رحمةٌ وسِعَةٌ للفرد وللأمة جمعاء. كما أنَّ الاختلاف في الأصول والثوابت لا يكون كالخلاف في الفروع فلا يشبه المختلف فيه مع الأمة في الأصول والثوابت كالمختلف في فروع الدين . مفهوم التجديد التجديد في الدين مأخوذ مِنْ قول النبي - صلى الله عليه وسلم – (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها). ومِنْ المقرر أنَّ المراد بالدين هو دين الإسلام الذي جاء به “خاتم النبيين” - صلى الله عليه وسلم - كخاتم للشرائع السماوية، وطبَّقَهُ صلى الله عليه وسلم على نفسه؛ فكان - صلى الله عليه وسلم - أعرف الناس بربه، وبدينه، وبشريعته، وأعبد الناس، وأقرب العباد إلى ربه - جلَّ وعلا - . وصحابته - رضي الله عنهم - أفضل هذه الأمة بعده - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وما قام به مجددو هذه الأمة لم يكن أبدًا تغيرًا في عقائدها، أو أخلاقها، أو عبادتها، أو تعاملاتها التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه - رضي الله عنهم -. فالمراد بالتجديد هو: إرجاع الناس إلى ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم -؛ كلما ابتعدوا عنه، أو التبس عليهم أمر مِنْ أمور الدين. كأنْ يلتبس عليهم منهج تشريع هذا الدين؛ فالتجديد هنا هو إفصاح المنهج النبوي الكريم، وإذا اختلط على الناس الفرق بين الأصول والفروع؛ فالتجديد هنا هو تبيين هذا الفرق. فمَنْ أفرط في أمر الدين، واختار الغلو والتشديد، أو فرَّط في شأن الدين؛ فالتجديد أنْ يرجع المُفْرُطُ والمُفُرِّطُ إلى الوسطية - أي: المتشدد والمتساهل - إلى الاعتدال والاتزان. فمجددو هذه الأمة لم يقوموا بتحريف مُسَلَّمات الدين باسم التجديد؛ ولكنهم أعادوا الأمة إلى الحق والصواب؛ عندما كان يغيب عنهم، وإلى ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -. وعلى سبيل المثال: فإنَّ مجدد القرن الأول عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - حينما شاهد القَدْحَ في شأن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أعاد الناس إلى ما يلزم الواجب في شأنهم، وقد أعاد نظام الخلافة إلى الخلافة الراشدة، فهذا تجديد منه في أمر الدين. ومجدد القرن الثاني عشر السيد أحمد - رحمه الله تعالى - عندما رأي انتشار البدع في شبه القارة الهندية؛ أعاد الناس إلى السُّنَّةِ وكذا مجدد القرن الرابع عشر الإمام محمد بن عبد الوهَّاب - رحمه الله تعالى - لَمَّا وَجَدَ البدع والمنكرات تستشري؛ قام برأب الصدع، ودعا الناس إلى توحيد رب العالمين . وهكذا بقية المجددين - رحمهم الله تعالى - فقد أعادوا الوضع إلى نصابه. وقد ذكر أحد القاديانينين في مؤلفه المعروف ب “عسل مُصَفَّى” أسماء هؤلاء الثلاثة في قائمة المجددين، ولَمْ نجد أي واحد منهم، ولا مِنْ غيرهم مِنْ المجددين مَنْ قام بالتغيير والتبديل في المفاهيم الشرعية، أو المسلمات الدينية المتوارثة لدى الأمة، وجاء فيها بتجديدات مِنْ عنده كما فعله المدعو: شودري غلام أحمد برويز، والميرزا غلام أحمد القادياني.