هاهو العام ينقضي وبانقضائه جزء من العمر ينقضي إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل الدنيا سئل عنها أطول الناس عمرا..قالوا له يا نوح.. وقد عاش أكثر من ألف عام.. كيف وجدت الدنيا.. قال وجدتها كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر..هذه هي الدنيا.. تمر سريعة .. تتوالى الشهور.. وينقضي العام .. ولابد للمسلم.. من وقفة مع بداية العام الجديد..العام الهجري ..الذي يذكرنا مطلعه بأمور ثلاثة..يذكرنا بأنه عام الله..وأنه عام الإسلام ..وأنه عام الأمة.. فهو عام الله.. لأن الله هو الذي خلقه.. واختاره لعباده.. وجعل شهوره أشهرا هلالية قمرية..هي عند الله..مقررة في كتابه العزيز..يقول الله تبارك وتعالى .. (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ.. يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.. مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).. والأشهر الحرم هي ثلاثة متتاليات ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ..وواحد منفرد وهو شهر رجب .. ضبط الله دخول أشهر العام الهجري بظهور الهلال .. فقال جل جلاله .. (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ .. قلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) لكل الناس.. لا فرق في ذلك بين عربي وعجمي ..ولا بين شرقي وغربي..لأن الهلال يراه كل الناس..فيعرفون به دخول الشهر .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وحديثه عن شهر رمضان .. وقوله في الصحيحين .. لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْا الهلال.. فعلامة دخول الشهر في الإسلام واضحة .. رؤية الهلال .. التي جعلها الله تبيانا لعد الشهور والسنين .. يقول رب العزة جل وعلا.. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابْ .. ثم ماذا.؟.. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ.. إنه العام الحق ..و التقويم الحق.. و المنهج الحق .. و الطريقة السليمة لحساب الشهور و السنين.. (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ .. يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).. ولا يكون ذلك في الأشهر الإفرنجية .. فدخول الشهر عندهم موعد وهمي. دخول شهر ديسمبر مثلا.. لا علامة تظهر للناس حلوله.. فهو نظام شمسي.. والشمس كما تشرق في أوله .. تشرق في آخره.. فالعام الهجري هو عام الله ..وهو كذلك عام الإسلام..فإن العرب قبل الإسلام .. كانوا يؤرخون بالأحداث.. فولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ..كانت عام الفيل.. لأن الحدث في ذلك العام .. قدوم أبرهة الحبشي.. بجيش يتقدمه فيل.. ليهدم الكعبة.. فأرسل الله عليه الطير الأبابيل..(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ .. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ .. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ .. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ .. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).. وسموا العام الذي فتح الله فيه على المسلمين مكة ..بعام الفتح ..واستمرت هذه الطريقة .. إلى عهد الفاروق عمر.. رضي الله عنه.. ففي السنة الثالثة من خلافته.. كتب إليه أبو موسى الأشعري.. وكان واليا على البصرة .. أرسل إليه بقوله.. يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ.. فجمع الفاروق الصحابة.. واستشارهم في الأمر.. فقال بعضهم نؤرخ بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم.. وقال آخرون نؤرخ ببعثته.. وقال غيرهم نؤرخ بهجرته.. فقال عمر.. الهجرة فرقت بين الحق و الباطل.. والهجرة أسست دولة الإسلام.. فاتفقوا على التأريخ بها ..ثم قالوا..من أي الشهور نبدأ عامنا.. قال بعضهم نبدأ عامنا من رمضان.. فهو شهر البعثة و شهر القرآن.. وقال بعضهم نبدأ عامنا من شهر ربيع الأول.. شهر المولد و شهر الهجرة.. وقال غيرهم نبدأ عامنا من شهر المحرم.. فنجعل شهر ذي الحجة آخر شهور العام.. فبالحج ختم الله الإسلام.. وبذي الحجة يختتم العام.. واتفق الصحابة على الرأي الأخير .. فصار المحرم، أول شهور العام الهجري .. فالعام الهجري هو عام الله.. وهو عام الإسلام ..وهو كذلك عام الأمة.. فما عرفت الأمة عزتها ورفعتها .. إلا لما تمسكت بجميع إسلامها.. و طبقت أمر ربها في جميع أوقاتها.. عاشت أيام شهورها، وشهور عامها، متتبعة لشريعة خالقها.. فلها في كل لحظة من يومها عودة لما يوجبه الدين ..فعرفت كيف تنهض من نومها ..و كيف تبدأ يومها ..و كيف تعامل من حولها..وكيف تكدح وهي في سبيل ربها.. فما هي إلا أعوام قليلة.. حتى ملأت دنيا الناس عدلا و أمنا ورخاء .. وقادت أمم الأرض نحو الرقي و الازدهار.. تم لأمتنا كل ذلك ..لما عاشت عامها طائعة لخالقها.. عاملة بشريعته ..مقتفية أثر رسولها ..صلى الله عليه وسلم.. وها هو العام ينقضي .. فلابد للمؤمن في هذا اليوم من وقفة .. يتأمل فيها عامه الذي مضى .. يسأل نفسه .. هل شغلته طاعة الله ..وهو المخلوق من أجلها .. كم عمل من الصالحات مع عباد الله.. هل أطاع الله في أسرته.. هل خشي الله في تعامله.. فإن وجد ذلك.. حمد الله..وجدد عزمه على الطاعة ..وإن لم يجد فيما مضى.. تاب إلى الله.. وشحذ عزمه على السير في منهج الله .. وجعل عامه الجديد .. عام طاعة لله .. عام طهر واستقامة و تقوى .. والله جل جلاله .. أوصانا في نداء قدسي.. أن نقف مع أنفسنا.. نستجمع التقوى ونتبيّن طريق طاعتنا لله.. فقال عز وجل .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.. وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ.. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)َ مر العام سريعا بأعمارنا..كم عشنا فيه من أوقات خصصناها لعبادة الله .. كم قمنا من الليل .. في الزمن البهي .. كان الذي يمر في شوارع المدينة ..يسمع من بيوتها دويا كدوي النحل .. (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ .. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون)َ زار أحد الصالحين صديقا له في آخر الليل ..فوجده نائما..فغضب عليه .. وقال له أتنام في ساعة التجلي .. ألم يبلغك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إِذَا مَضَى ثُلُثا اللَّيْلِ .. تجلى الله على عباده.. فَقَالَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ.. هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ.. هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ.. هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ..وذلك إلى مطلع الفجر .. لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ وقلت يا عدتي في كل نائبة ويا من عليه كشف الضر أعتمدُ أشكو إليك ذنوبًا أنت تعلمها مالي على حملها صبر ولا جَلَدُ وقد مددت يدي بالذل معترفا إليك يا خير من مدَّت إليه يد فلا تردَّنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل مَن يرِدُ اللهم املأ بالبركات أعمارنا، واختم بالصالحات آجالنا، واجعل يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا..واكتبنا من عبادك الطائعين... وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم. والله من وراء القصد