الفيصل .. اقتصادي محنك عرف أهمية الاقتصاد في دفع عجلة التنمية لهذا الوطن المعطاء فأولاه جل اهتمامه وسعى سعياً حثيثاً لوضع ركائز نموه الأساسية التي تهدف إلى القفز بهذا الوطن إلى آفاق من التقدم والتطور والازدهار.. وفي حلقة اليوم نسلط الضوء على بعض إسهاماته الفعالة وجهوده البناءة في هذا الجانب فإلى التفاصيل : يمكننا القول إن التطور الاقتصادي للمملكة العربية السعودية كان الشغل الشاغل الملك فيصل طيب الله ثراه ليسن رحمه الله برامجه الإصلاحية التي سعى من خلالها إلى إحداث تبديلات جذرية تهدف إلى النهوض بمجتمع المملكة بغية النهوض بالمستوى المعيشي والحياتي للمواطن السعودي دون معزل عن قيمه الدينية والأخلاقية. لذا عملت سياسة التنمية التي وضعها الفيصل على تحقيق زيادة معدل نمو الإنتاج وتطوير الموارد البشرية وتنويع مصادر الدخل وتخفيض الاعتماد على البترول. ونظراً لإيمان الفيصل بضرورة التنمية وسعيه الحثيث لتحقيقها قام باستيراد الطرق العلمية الحديثة والمساعدات التقنية من الخارج كما أنشأ هيئة مركزية للتخطيط حلت محل المجلس الأعلى للتخطيط وقال رحمه الله : (تم بحمد الله تعالى الموافقة على خطة التنمية من قبل هيئة التخطيط العليا ، طبعاً المقصود محاولة النهوض بهذه البلاد إلى المستوى اللائق بها وصرف كل الإمكانيات والمجهودات فيما يحقق لنا بحول الله وقوته خدمة ديننا ووطننا وأمتنا وأن نصل إلى ما نصبو إليه بتوفيقه سبحانه وتعالى). وفي إطار سعي الفيصل إلى توفير المزيد من الرفاهية للمواطن قام بإلغاء الرسوم الجمركية على السلع المستوردة أو تخفيضها خاصة تلك السلع التي لا تتوفر في المملكة ، كما زاد حصة الدولة من عائدات النفط وزيادة حصتها في ملكية هذا القطاع مما أدى إلى إرساء أسس التغير الاجتماعي الكبير الذي شهدته الدولة ، وأسهم في دعم أصحاب الدخل المحدود بإقراضهم من صندوق التنمية العقاري بلا فوائد بعد أن تدفع الدولة عنهم 20% من قيمة القرض الذي يسدد على 25سنة ، وإيماناً من الفيصل بأهميته القطاع الصناعي ودوره المتميز في دفع عجلة النمو والتطور فقد وافق رحمه الله على نظام صندوق التنمية الصناعية السعودية الهادف إلى منح قروض متوسطة وطويلة الأجل للمشروعات الصناعية الخاصة التي تنشأ في المملكة العربية السعودية دون أخذ فوائد عليها ، كما أسست حكومة الفيصل صندوق الاستثمارات برأس مال بلغ مائة مليون ريال خصص لتمويل المشروعات الصناعية ودعم رأس المال الخاص والمساعدة على إنجاز المشاريع الصناعية التي يعجز الأفراد عن الإقدام عليها وحدهم ليعتبر الصندوق الوحيد في الوطن العربي الذي يقوم بهذه المهمات التنموية البناءة مما يعطينا دلالة واضحة على اهتمام الملك فيصل بالقطاع الصناعي في المملكة العربية السعودية كصناعة الحديد والصلب والصناعات البتروكيماوية والأسمنت والبلاط والمنظفات والأثاث ودباغة الجلود والمرطبات والثلج وصناعة الأحذية والطوب الأحمر والأسمدة والنسيج وغيرها . كما دعم قرار مجلس الوزراء رقم 5090 إعفاء المصانع من الرسوم الجمركية طبقاً لنظام حماية وتشجيع الصناعات الوطنية. وبلغ عدد المصانع التي أنشئت أثناء تولي الفيصل مقاليد الحكم في البلاد أكثر من 475 مصنعاً ، معظمها تنتج الصناعات الكبيرة والمتوسطة التي بلغت رؤوس الاموال المستثمرة فيها ما يربو على 2500 مليون ريال ، كما ارتفع عدد العاملين في قطاع الصناعة باستثناء الصناعات البترولية أكثر من (25000) عامل موزعين على الصناعات المختلفة . كما ارتفع مجموع المؤسسات الصناعية العاملة في المملكة العربية السعودية التي يزيد عدد المستخدمين فيها على 10 أفراد إلى 358 مؤسسة رأسمالها الإجمالي 985.6 مليون ريال، كما تم إنشاء مركز التدريب المهني ومركز الأبحاث الصناعية ، كما اهتم الفيصل بإنشاء المدن الصناعية. وكثيراً ما اهتم الفيصل ببناء مستقبل هذه الدولة ومن أقواله الخالدة بهذا الجانب قوله : (إن المكسب الأساسي ليس الاستثمار وجمع الأرباح ، وإنما المكسب الأساسي هو السير بهذه الأمة وهذا الوطن إلى أن نبني مستقبله على قواعد سليمة) ولهذا بدأت حكومته في اتباع أسلوب التخطيط المتميز للتنمية الاقتصادية ، وأنفقت 80 بليون ريال على خطة التنمية الأولى التي هدفت إلى تطوير التجهيزات الأساسية ، لاسيما المرافق العامة تحسين الخدمات الحكومية. هذا وقد نجحت أعمال التنقيب والدراسة عن اكتشاف أكثر من 4200 من المكامن المعدنية التي شملت الذهب والفضة والنحاس والزنك والرصاص والحديد والألمونيوم والمعادن النادرة واليورانيوم والمعادن الصناعية والفوسفات وغيرها كثير ، وقدرت قيمة المعادن المكتشفة قبل استخراجها من باطن الأرض بحوالي 73.6 مليون ريال. وأصبحت المملكة العربية السعودية أولى دول العالم في تصدير النفط وثالث دول العالم في إنتاجه بعد الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدةالأمريكية. واستطاع الملك فيصل تطوير الموارد الاقتصادية والبحث عن حقول للبترول ومناجم الذهب وسائر المعادن الثمينة ، حتى أصبحت المملكة العربية السعودية من أغنى دول العالم وأعلاها مكانة وأجدرها بما تطمح إليه من مستقبل زاهر. كما أولى الفيصل القطاع الزراعي جل اهتمامه وسعى لاستغلال المساحات الكبيرة القابلة للزراعة ونجح في تبديد الوهم القائم في الأذهان بصعوبة النهوض بالزراعة في تلك المساحات الشاسعة ، كما وزع الأراضي البور على المواطنين مما أدى إلى زيادة الرقعة الزراعية بعد استصلاح الأراضي وإحيائها ، فتحسنت أحوال المزارعين المادية وكثر الإنتاج الزراعي ، كما أنشئ البنك الزراعي برأس مال قدره عشرة ملايين ريال ثم ضاعفه إلى أكثر من خمسة أضعاف ، ليكون مركزاً ائتمانياً حكومياً متخصصاً لتمويل مختلف الأنشطة الزراعية بإمداده المزارعين بالآلات الزراعية على أقساط. وبالحديث عن الجانب الزراعي لابد لنا أن نعرج على مشروع الفيصل النموذجي للتوطين أو ما يسمى بمشروع حرض البالغ طوله أكثر من سبعين كيلو متراً في حين يتراوح عرضه ما بين الكيلو الواحد والأربعة كيلومترات في وادي السهباء ، والذي يعد أكبر عملية تحويل لفئة كبيرة من المجتمع بنقلها من مرحلة البداوة إلى مرحلة الاستقرار والحضارة ، والذي يستصلح أرضاً صحراوية لم تسكن من قبل ولم تزرع ، وقد قدرت تكاليفه بمائة مليون ريال ، وقد استصلح أكثر من ثلاثين ألف دونم ، وحفرت فيه عشرات الآبار وبنيت به شبكات كاملة للري والتصريف ، ومحطة للأبحاث وأقيمت به قرى نموذجية بلغ عدد مساكنها 1500 بيت مسلح وزعت على البدو بأثمان رمزية ترد على أقساط في مدة طويلة من إنتاج حاصلاتهم الزراعية. كما تأسست المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق والتي أسهمت بصورة فعالة وملموسة في التنمية الزراعية والحيوانية ، وعملت على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية ، وأسهمت في تخزين الغلال ، وإنتاج الدقيق ، وتصنيع أعلاف الحيوان ، وتسويق منتجات المؤسسة داخلة المملكة وخارجها ، وإيجاد مخزون احتياطي لمواجهة الظروف الطارئة. ليبلغ عدد العاملين في القطاع الزراعي في العام 1939 (650,671) عاملاً مشكلين نسبة 40% من القوى العاملة في المملكة في حين بلغ إجمالي المزارعين (125366) مزارعاً أي ما يعادل 20% من مجموع سكان المملكة العربية السعودية في ذلك الحين. وأنشأت حكومة الفيصل عدداً كبيراً من السدود في مختلف مناطق المملكة ، وذلك لاحتجاز المياه والسيول المفاجئة ومنعها من الطغيان على الأودية والواحات والقرى ولزيادة منسوب المياه الجوفية ، إضافة إلى مشاريع أخرى للري والصرف ومشاريع لحجز الرمال. كما شجعت الدولة تربية الحيوانات ودفعت مكافآت نقدية للذين يمارسون تربية الحيوانات حسب عدد الحيوانات التي يقومون بتربيتها. وقد أوضح الفيصل أهمية الإصلاح الزراعي فقال: (الإصلاح الزراعي هنا ليس إصلاحاً زراعياً كما يفهمه الغير ، لكنه إصلاح زراعي مضمون على أسس مدروسة ، تجعل الدولة والمرافق العامة في خدمة المواطن وليس العكس ، فإن المشاريع التي تأتي بدون أن تدرس وبدون أن يوضع لها الخطط اللازمة لضمان المستقبل ولضمان النتائج هي أعمال ربما تكون طائشة غير مرتكزة إلى قواعد أساسية تضمن لها الدوام والبقاء). ولعل نظرة سريعة على ميزانية المملكة العربية السعودية في العام 1378ه نجدها قد خصصت للزراعة 26 مليون ريال ولو قلبنا صفحات ميزانية الدولة السعودية وصولاً إلى ميزانية المملكة عام 1394ه نجدها قدد خصصت للزراعة 1303 مليون ريال مما يدل على دعم الدولة في عهد الفيصل للقطاع الزراعي ، كما يتضح لنا بجلاء أن الفيصل كان يسعى من هذا إلى تحويل المجتمع السعودي إلى خلية عمل متحررة من العوز ، متمسكة بالقيم الروحية ، مجتمع ديني يبني الدولة الإسلامية الحديثة المتحررة من الفقر والمرض والجهل لتصبح في النهاية في مصاف الدول الحديثة المتقدمة. وقد رأى الفيصل بثاقب نظره ضرورة تبني المملكة العربية السعودية النظام الاقتصادي الحر، وهو القائل : (إننا اخترنا لنظامنا الاقتصادي النظام الحر) ، ثم بين الفيصل واقع النظام الاقتصادي الحر في المملكة العربية السعودية بقوله : (إننا لا نقيد حرية أي إنسان في أن يستهدف في عمله وفي اتجاهه ما يرى فيه صالحاً عاماً) ، فالنظام الاقتصادي السعودي يمنح الفرد حريته في الإنتاج والإبداع ، ولكنه لا يسمح له بالغش والتلاعب والإساءة إلى المصلحة العامة ، وذلك أن الشريعة الإسلامية قد أقرت الحرية الاقتصادية ، يمعنى إعطاء الفرد حقه في ممارسة التجارة والعمل والتملك ، وهي تتيح الحرية الفردية وتصونها وتقر بحق الفرد في أن تكون له نشاطاته الحياتية يديرها بنفسه دون أن تتدخل الدولة ، شرط ألا يضر هذا النشاط بالمجتمع السعودي ، إضافة إلى تحمل الدولة بعض النفقات لتخفيض أسعار التكلفة لبعض ضروريات الحياة كأسعار المواد الغذائية وأسعار الكهرباء والماء تأميناً لبعض ضروريات العيش الكريم للشعب السعودي ، متوخية في خططها التنموية اختصار الزمن. وهكذا كان للفيصل دوره البارز في النهوض بكل ما يخدم التطورات الاقتصادية في المملكة العربية السعودية ، وكان من الواضح أن لا تلقي الدولة هذا العبء الاقتصادي على القطاع الخاص وحده ، وهو في بداية تكوينه ، لذا سارت قدماً في تحقيق وثبتها الحضارية بتبني إقامة المشاريع الاقتصادية الحيوية المتعلقة بالصناعات الثقيلة التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة ، وبذا أقامت قطاعها العام لكن لا ليعمل بمفرده ، وإنما ليسهم إلى جانب القطاع الخاص ، للنهوض بهذا البلد ، وسعت سعياً حثيثاً ليكون القطاعان العام والخاص متكافلين متكاملين ، وبذلك استطاع الفيصل النهوض بالجانب الاقتصادي لهذا البلد المعطاء نهضة عملاقة في فترة قياسية.