بين حناياها درجت ؛ وفي حضنها تربيت ؛ وعلى شُرفات قلبها الراقي تعلمت كيف تكون الحياة ؛ وكيف تعلمنا الأيام والسنون. ليس في العالم مكان أطهر من قلب أمي التي تفهمني أكثر من نفسي , تلملم شتات قلبي , وتترجم طلاسم فكري وتحتويني كما لو كنت جوهرة ثمينة لا تقدر بثمن. أمي إن عشقي لك والذي يستكن في صدري هو عشق غرسته منذ أن كنت في أحشائك , فسقيته بحنانك ورعايتك , وقمتِ عليه كما يقوم البناء على بنايته , علمتِ جيدا أن للعطاء فناً وعنواناً, وأن الجذور هي الأساس , وأنه مهما طال الأمد أو قصر فإن الثمار قادمة لا محالة , وستكون ثمار اليوم هي ما زرعناه من بذور الأمس فهذا أمرٌ به إنصافٌ وعدالة. علمتنا بأن الحياة لا تصفو لسائل ؛ ولا تأتي لطالب ٍأو طامع ؛ ولا تزهو لمتكاسل أو متخاضع ؛ ولا تحلو لظالم أو عابث ؛ ولا ينجو فيها متخاذل متلاعب. علمتنا أن اليوم عمل , ولا عمل بلا علم , ولا علم بلا حلم , ولا حلم بلا أمل. علمتنا أن التخطيط أساس النجاح , وأن التوكل على الله مفتاح الفلاح , وأن النية تترجم القصد , وأن الملائكة صباحا ومساء يحترفون فن الرصد , فمن توكل على الله ولازمت نيته قصد الخير فقد أفلح فلاحا بلا ندم وعلت في الدين والدنيا همته فلامس القمم. علمتنا أن الدين قوة ؛ والقوة بالله ورسوله مبعث العزة والرفعة ؛ وأن الحواس أمانة ؛ وأنها شواهد الدنيا يوم القيامة. علمتنا أن الوطن يعني أمة وتأريخ وحضارة , فالحب له واجب , والعمل على رفع شأنه واجب ؛ والحياة فيه تعادل ألف حياة فيما سواه. علمتنا أن العفة تاج المسلم ؛ والكرامة رداؤه ؛ وحسن الخلق زينته ؛ والكرم شيمته ؛ وفي الظلم جبروته ؛ وفي العدل إنصافه ؛ وفي خوف الله مهابته , وفي الذل لغير الله مهانته ؛ وفي الحسنة ثوابه ؛ وفي المعصية عقابه ؛ وإن أحسن في الحياة اختياره كانت جنة الخلد داره وقراره. علمتنا أن الحياة موانئ ؛ وأن لكل ميناء حكاية ؛ وأن لكل حكاية عبرة وعظة ؛ وأن الفائدة تعم المعرفة ؛ وانه لا طعم للنجاح بدون كفاح ؛ وأن العيب ليس في الفشل بل في التواكل والإهمال والكسل. علمتنا أن نستقي العلوم من منابعها ؛ وأن نتتبع المعارف ونلازمها ؛ وأن نقصد فيها وجه بارئنا ؛ فالعلم تحفة المؤمن ونبراسه ؛ ووقود يومه وزاد حياته ؛ والعمل به أمرٌ لا بد منه والسؤال عنه أمر ٌ مفروغ ٌ منه. علمتنا أن الخير في الدنيا وإن عم ظاهرها الشر ؛ وأنه ليس بعد العسر إلا اليسر ؛ فلا شمس تدوم ولا قمر ؛ ولا ليل ٌيطول بلا فجر ؛ فللطريق نهاية كما كانت له بداية ؛ وأن العبرة بخواتم الأعمال ومقاصدها. أمي أنتِ مدرستي وإن طال الحديث عن ما عملتيه وعلمتيه لنفدت من بين أيدينا الكلمات ولجف الحبر في حناجر الأقلام ؛ فأنتِ أول مدرسة نشأ فيها الفكر وترعرع فيها الوجدان ؛ لك مني تحية حب تملأ ما بين الأرض والسماء , ووقفة شكر وعرفان لا تجزيها إلا كنوز الجنان , حفظك الرحمن ورزقنا برك ما تعاقبت علينا الأزمان.