وجد الفيصل بن عبدالعزيز نفسه مسؤولاً عن تنظيم جميع الأمور ومشرفاً على إداراة الدولة بعد تشكيل الحكومة السعودية وتشريف جلالة الملك المؤسس له بتكليفه بالنيابة عنه في الحجاز ..! فكان أهلاً للثقة وعلى قدر المسؤولية فبدأ مشواره في قيادة الدولة الفتية بعزيمة واقتدار مستهلاً إياه بحركة الإصلاح الإداري في الدولة والتي تمخضت عن إنشائه للجنة التفتيش والإصلاح الإداري فضلاً عن بحثه عن موارد إضافية تمول حركة البناء وسنه للأنظمة وإقامته للمشاريع التنموية الجبارة واعتنائه بالتعليم لتتشعب مهماته وتتعاظم مسؤولياته إلا انه كان دائماً أهلاً للثقة ومضرباً للمثل في الجد والاجتهاد والحنكة والحكمة والحلم .. وفي حلقة اليوم .. سنتوقف على أبرز لمسات الفيصل في حركة الإصلاح الإداري الداخلي فإلى التفاصيل : لقد واجهت سموه مشكلات كثيرة في الحجاز قابلها بعزم ، وذلل منها كل صعب حتى تمكن من إحداث تطويرات خطيرة في أنحاء البلاد من النواحي العمرانية والثقافية والصحية . فقد أنشأ الأمير فيصل لجنة لدراسة المشاريع العمرانية ، تستعين في عملها بالخبراء العرب والأجانب حتى تكون مشاريع الدولة مبنية على أسس علمية صحيحة ، وكان يوجه البلديات ويشرف على أعمالها ، وكانت الحجاز تعاني من نقصان الماء فرأى سموه معالجة هذا النقص بالوسائل التي لم تكن البلاد قادرة على تدارك أكثر منها ، وهي المضخات الحديثة لرفع المياه من الآبار ، فأمر بشراء عدد منها من البلدان الأوربية ، وجرت تجربتها في أماكن مختلفة أسفرت عن نجاح تام كان له التأثير الكبير في دعم المزارعين ، وحملهم على استخدام مثل هذه المضخات في مزارعهم الخاصة . ووفقاً لما أورده منير العجلاني في سفره (تاريخ مملكة في سيرة زعيم) فقد تم بفضل من الله ثم بجهود الأمير فيصل توصيل المياه بالأنابيب إلى المنازل في مكةالمكرمة ، ثم تبعتها في ذلك المناطق الأخرى . وبناء على الدراسات التي قامت بها لجنة التفتيش والإصلاح التي كان الفيصل قد أنشأها تم إعداد التوصيات والاقتراحات ورفعها إلى الإمام ، وكان من ضمنها وفقاً لما نشرته صحيفة أم القرى في عددها رقم 134 الصادر بتاريخ 8 محرم 1346ه مشروع نظام مجلس الشورى الذي لم يعمل به سوى عشرة أشهر كما سبق أن أسلفنا في حلقاتنا الماضية . ومن أجل هذا تطوير الجهاز الإداري في الحجاز أمر الأمير فيصل بتشكيل لجنة البحث والتدقيق وذلك في شهر ذي الحجة من العام الهجري 1347وذلك للنظر في أمور دوائر الحكومة الحاضرة والمستقبلية ، ولقد بحثت في شهر محرم من العام الهجري 1348ه موضوعات عديدة تتعلق بشؤون المعارف والبلديات والبريد والبرق والأوقاف ، كما بحثت ودققت في معاملات الدوائر وسير الأمور فيها كإدارة الجمارك والكرنتينات والبلديات والشرطة والبرق والبريد . وفي شهر جمادى الآخرة من العام الهجري 1348 تشكلت لجنة المشاريع العمرانية ، وكان من قراراتها استقدام مهندس متخصص في طبقات الأرض والمعادن ، كما قررت وفقاً لما ذكره صافي إمام موسى في سفره (تجربة المملكة العربية السعودية في الإصلاح الإداري وإعادة التنظيم) إنشاء رصيف جمرك جدة . وكثيراً ما اهتم الفيصل بالصحة وسعى إلى توعية المجتمع بأهميتها فقال موضحاً أهميتها للفرد والمجتمع : (الصحة سر القوة ، وهي طلبة كل نفس ، ولاهناء للعيش إلا بها ، وإننا نحمد الله أن الصحة في الحجاز تخطو خطوات طيبة في سبيل التقدم) . ووفقاً لما ذكره منير العجلاني في سفره الآنف الذكر فقد أوضح الفيصل حرية الرأي ، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم ، والعلاقة بين المجلس والشعب لضمان الحقوق الأساسية مثل حرية الرأي شريطة ألا تمس أياً من التشريعات والأسس والأصول الدينية والحياة العامة ، ومن أقوال الفيصل في هذا الجانب قوله المأثور : (رأينا في كثير من الأمم أناساً يقفون على المنابر ينتقدون رؤساء حكوماتهم وموظفيهم وزعماءهم بدعوى أنه ليست عندنا حرية رأي ، وهذا قول مردود ، فأي بلد يتمتع بحرية رأيه مثلما عندنا ؟ يقف الفرد من الشعب ويستوقف مليك البلاد في عرض الطريق ويبث إليه شكواه ، فهل بعد هذا حرية رأي ؟ إلا إذا كان المقصود من الحرية اتخاذ ميدان للتطاعن الشخصي وتبادل السباب ، فهذه ليست بحرية رأي) . وبين الفيصل في أن الحرية تكون في أن يكون الفرد مخلصاً في رأيه والمحافظة على الكرامة والحقوق ، كما بين ما يدل على حرية الرأي في هذه الدولة الفتية أنه ليس هناك فرق بين الرئيس والمرؤوس في الحق العام , والرجل في الشارع والحاكم أما الحق سواء . وقد كان إلى جانب هذه المجالس واللجان التي أدت دوراً كبيراً في بناء الجهاز الإداري في الحجاز ، أنه بلغ من تطور التنظيم الإداري أن تم جمع الإدارات المتجانسة في وزارات ، نظراً لكثرة الأعمال وتشعبها وافتقارها إلى إدارة تنسيق مركزية ، وكانت أول هذه الوزارات وزارة الخارجية ، أما الوزارة الثانية التي تشكلت فهي وزارة المالية ، وكانت في السابق مديرية للمالية ، وقد نشأت بالتدريج ، وقد استمرت مديرية المالية وفقاً لما أورده صالح بن محمد الشعيبي في سفره (ملامح السياسة المالية والإدارية في المملكة العربية السعودية) في القيام بأعمالها إلى أن تم تحويلها إلى وكالة ، وذلك بصدوره نظامها الجديد بالموافقة الملكية في 18 ربيع الأول 1347ه . وقد استمرت وكالة المالية في أداء عملها والإسهام في تطوير الإجراءات المالية لمقاومة الركود الاقتصادي العالمي على رغم قلة الإمكانات المادية واستمرار زيادة الأعمال . ومما يعكس ظاهرة الإصلاح الإداري والمالي في البلاد صدور الامر الملكي بتحويل وكالة المالية إلى وزارة وتعيين الشيخ عبدالله السليمان وزيراً لها . في مجال الإصلاح الإداري في الحجاز دعا الأمير فيصل أفراد الشعب الذين يرون من موظفي الدولة تقصيراً في واجباتهم نحوهم أن يشكوهم فوراً إلى مراجعهم ، وقال في بيان رسمي : (ليكن معلوماً لدى الجمهور أن من له قضية في إحدى الدوائر عليه أن يطلب إنهاء قضيته من قبل المأمور المختص ، فإن لم ينه عمله حسب النظام ، أو تهاون في إنجازه فعلى المشتكي أن يرفع الأمر إلى رئيس ذلك المأمور ، فإن لم ينصفه هذا راجع النائب العام) . ولم يقتصر هذا التطور والتنظيم على الجانب الإداري فقط ، بل تجاوزه ليشمل الموظفين ، ويعد أول نظام صدر للخدمة المدنية في سنة 1345ه ويشتمل على ست مواد توضح الطريقة التي يجب التعامل بها مع الموظفين في الدولة ، حيث اشترطت فيمن يشغل وظائف الدولة حصوله على التابعية السعودية والكفاءة للقيام بخدمة الدولة ، وحسن السيرة والسلوك ، والمحافظة على الحقوق المدنية والشرعية ، وضمنت للموظف حقوقه في الخدمة واستمراره فيها وعدم فصله إلا إذا ثبت ارتكابه لجريمة أو سوء معاملة . وقد اهتمت الدولة في الرقابة على موظفيها للتأكد من قيامهم بواجباتهم ، وإنزال العقوبات الشديدة بكل من خان وظيفته وفقاً للأنظمة الصادرة في شأن العقوبات الخاصة بالموظفين كل حسب جريمته . ندرك من ذلك أن الفيصل دخل الحياة العملية في الحجاز وكانت ميزانية الحكومة وإمكاناتها محدودة جداً ، فمارس هو نفسه أعباء الوظائف كلها إدارية وتعليمية وصحية وزراعية وأمنية ، ووقف على أسرار الإدارات كلها ، وعرف نفسيات المواطنين والمراجعين ، وكان سديد التحري لما يقع تحت نظره ، يعرف الموظف المسيء فيحذره وقد يعاقبه ويعرف المحسن فيحسن إليه . وكان حريصاً على تطور المجتمع السعودي علمياً واجتماعياً واقتصادياً بما يتمشى مع العقيدة الإسلامية . ولم يكن الفيصل يستقل بالحكم في أمر من الأمور أو يبت في قضية بمجرد الرأي والهوى ، بل كان يحيل ما يعرض عليه إما إلى المحاكم الشرعية للحكم فيها بما أنزله الله سبحانه وتعالى ، أو إلى المجالس والهيئات الإدارية لتقرر فيها ما ترى فيه المصلحة العامة . من أجل هذا أحبه الناس بقلوبهم والتفوا حوله بأرواحهم ، فلا يذكر دائماً إلا بالثناء والتبجيل . ويجب أن ندرك أن الفيصل كان لتعدد سلطاته ولرغبته الشديدة في العمل والإنتاج وخدمة الشعب يقوم بأعمال كثيرة في مجالات مختلفة جداً ، وبفضل هذا التدريب الشامل والمبكر اكتسب معرفة تامة بكل صغيرة وكبيرة من شؤون الجهاز الإداري للدولة ، وعمل بكل جد وإخلاص على دعم الإصلاح الإداري الداخلي في تلك الفترة .