كنا قد خصصنا حديثنا في الحلقة الماضية عن المراحل الأولى والخطوات الرئيسة التي انتهجها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ونجله الفيصل بن عبدالعزيز رحمهما الله والتي تمخض عنها انبثاق مجلس الشورى الذي ترأسه الفيصل وأولاه جل اهتمامه كما لقي كل عناية ودعم من جلالة الملك المؤسس. واليوم نواصل الإبحار في يم تلك المسيرة المظفرة لهذا المجلس العظيم الذي ما لبث يوماً بعد آخر يبرهن بعد نظر مؤسسيه نظراً لدوره الفاعل في دعم عجلة تنمية هذا الوطن .. فإلى التفاصيل: فطن الفيصل الذي ترأس مجلس الشورى منذ نشأته إلى عظم مكانة هذا المجلس لذا لعب دوراً بارزاً في تفعيل دوره ونبه على تلك العظمة التي يحظى بها مجلس الشورى غير مرة ولعل إحداها تتمثل في كلمته الافتتاحية للجلسة الأولى لمجلس الشورى في عام 1348ه والتي ضمت عدداً من الأعضاء الجدد حيث قال : (إن هذا المجلس هو صاحب الصوت الأعلى، وإن الحكومة تعتبره ممثلاً لجميع الأمة ومهمته خطرة ومسؤوليته كبيرة، فقد أصبحت الأعمال المهمة وكل المعاملات تعرض عليه وتنظر لديه). كما كان للأمير فيصل دور كبير في سير مجلس الشورى، فقد كان يحرص على تشريف حفل الافتتاح الذي يقيمه المجلس في كل دورة كما كان يفعل جلالة الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود في حال تواجده في مكةالمكرمة، وكان الفيصل يتلقى بياناً من المجلس بما أتمه خلال دورته السابقة، ويبدي ما يقترحه في المستقبل في سبيل التقدم والإصلاح، ويذكر ما تزمع الحكومة عمله في الإنماء والتعمير، ويحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما كان ينصح فيه بأسلوبه الحكيم وبما اختصه الله عز وجل به من الحلم والأناة بأن تسير مناقشات المجلس في جو من الهدوء وسعة البال وحسن الاحتمال، وفي حرص تام على أداء الأمانة وتحقيق الأهداف السامية دون تنازل عنها أو هوادة فيها، ويدعو إلى وجوب الصراحة والمناصحة وإيثار المصالح العامة. وقد ذكر الشاعر أحمد بن إبراهيم غزاوي في سفره (الفيصل ومجلس الشورى) إن الفيصل رحمه الله كثيراً ما كان يوجه خطاباً إلى جهة أو جماعة من الأعضاء وهو يعني غيرهم على طريقة (إياك أعني واسمعي يا جارة) فلا يجابه من يعنيه بعتابه، ويطبق في ذلك قول: (ما بال أقوام) حرصاً منه رحمه الله على أن لا يجرح شعور من يعنيه مواجهة، فيستشعر المقصود بحديثه إنه هو فيخلص في عمله. صلاحيات واسعة وقد أعطى مجلس الشورى صلاحيات واسعة في النظر في أمور الدولة وأنظمتها وميزانياتها، وهذا لا شك له دور كبير في تطوير البلاد. هذا وقد أورد الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحصين في سفره (فيصل بن عبدالعزيز آل سعود وجهوده في القضايا العربية والإسلامية) إن لإشراف سمو الأمير فيصل على مجلس الشورى تأثيرات بطريق مباشر أو غير مباشر على تطوير هذا المجلس، ويتصل بسموه النائبان للاسترشاد في كل ما تستدعي المصلحة الاتصال به،فيكون الرأي متفقاً بين المجلس والحكومة في جميع الأعمال. وليس معنى ذلك أن يسير المجلس بمقتضى توجيه خاص إلى وجهة نظر محدودة أو معينة، بل كانت له الحرية المطلقة في إبداء رأيه في الشؤون العامة المعروضة عليه دون تقييد أو تحديد، وله الحق في عرض آرائه ومقترحاته، بل كل مخالفة يبديها أحد أعضائه أو أكثر ضد قرار الأكثرية،على أن يكون كل من القرار أو المخالفة مدعماً بحجته الشرعية أو النظامية والمهم قبل كل شيء هو الإخلاص في ذلك كله ، وضمان ما تقضي به مصلحة الأمة والبلاد . وبالعودة إلى سفر خير الدين الزركلي المعنون ب (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز) نجد أنه قد أكد أن مجلس الشورى استطاع منذ نشأته إنجاز المئات من الأنظمة والتعليمات منها: مجموعة أنظمة القضاء الشرعي، وأنظمة البرق والبريد والهاتف، وأنظمة الصحة العامة،والأنظمة المتعلقة بالوزارات والإدارات الرئيسة العامة وهي كثيرة، ومنها نظام هيئة مراقبة الحجاج بجدة، ونظام دائرة الأوقاف بالمدينة، ونظام العقارات، وتعليمات مديرية الحرم النبوي، وتعليمات هيئة العين الزرقاء، ونظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ونظام شروط استخدام الموظفين الصحيين، وتعديل نظام تصديق الصكوك والاعلامات،والنظام الداخلي لنقابة السيارات، وتنظيم موازنات الدولة، ونظام وكالة المالية العامة، ونظام جوازات السفر، ونظام الصيد البحري والغوص، ونظام وزارة المالية الأساسي والداخلي، ونظام الشرطة العام وإدارة السجون، ونظام دوائر النفوس، ونظام الصرافين، ونظام منع بيع السلاح وحمله، ونظام تحديد الجنسية السعودية، والنظام الأساسي للملكة،ونظام الأمراء والمجالس والعمال،ونظام الموظفين العام،ونظام الملاحة الجوية في المملكة، وتعليمات رسوم المطارات والنظام الداخلي لوزارة الدفاع المعدل،ونظام الرقابة على النقد،ونظام الطوابع الحديث وغيرها كثير. واجب الحكومة والرعية ومن هذه النظم والتعليمات ما وضعه أهل الاختصاص في مختلف الوزارات والدوائر الحكومية، وكان لمجلس الشورى إقراره أو إدخال تعديل في أسلوبه. وفي سنة 1369ه أوضح الأمير فيصل مهمات مجلس الشورى واختصاصاته، وبين أن حكومة الملك والمجلس والشعب مرتبطون بأوثق الروابط من الناحية الأخوية والدينية. وبين مسؤولية المجلس، وهي القيام بما عليه من توجيهات،وإقرار ما يلزم لتقدم البلاد والأمة، ومراقبة ما ينفذ وما لا ينفذ . ووضح واجب الحكومة والرعية، وأنه لابد من تضافر الجهود بين الطرفين لكي تتحقق الغاية المنشودة لخير البلاد، وبين سياسة الحكومة في الداخل من نشر العلم وتوسعة المدن وتأمين المرافق الصحية ، وإقرار المشاريع النافعة للبلاد وتنفيذها ، وما قامت به الحكومة من الناحية العلمية والعمرانية والمواصلات. ووفقاً لما أورده خير الدين الزركلي في سفره (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز) فقد بين الفيصل سياسة الحكومة في توطيد العلاقات الأخوية والودية بين المملكة العربية السعودية والبلاد العربية ، وتوطيد العلاقات الودية مع الحكومات الأجنبية وبالذات الدول الإسلامية. وهذا يؤكد ما كان لمجلس الشورى من دور في بناء هذه الدولة الفتية وخصوصاً جهود الأمير فيصل بن عبدالعزيز في المجال ، وقد أسهم مجلس الشورى إسهاماً فعالاً في بناء هذه الدولة فأعضاؤه كان اختيارهم يتم على أساس الجدارة والكفاءة في تقديم النصح والإشارة وإدارة الأمور بالحكمة ، وبهذا يكون الإمام عبدالعزيز قد أحيا نظام الشورى الإسلامي من جديد ليسهم أهل الحل والعقد في بناء الدولة إسهاماً يتناسب مع ظروفها وإمكانياتها ، وكان اختيار الأمير فيصل بن عبدالعزيز لرئاسة هذا المجلس خطوة إيجابية أسهمت في إنجاح الخطط التي أقرها لخدمة المجالات الحيوية الأخرى التي سبق أن أشرنا إليها. لجنة التفتيت والإصلاح الإداري والحديث يطول عن إسهامات الفيصل على حركة الإصلاح الإداري الداخلي في هذه الفترة فبعد أن تم تشكيل الحكومة وفقاً لما جاء في التعليمات الأساسية ، أصبح النائب العام يشرف على تنظيم جميع الأمور وإداراتها حسب توجيهات الإمام عبدالعزيز، باستثناء الأمور الخارجية والعسكرية التي يشرف عليها الملك. ولرفع مستوى الجهاز الإداري أمر الأمير فيصل بإنشاء لجنة التفتيش والإصلاح الإداري وذلك في سنة 1345ه لدارسة هذا الوضع وتقديم الاقتراحات والتوصيات اللازمة لتطويره وفقاً لما تقتضيه مصلحة البلاد ، فواصلت هذه اللجنة أعمالها وأرسلت إلى النائب العام خطاباً ليصدر أمره إلى عموم الدوائر الرسمية لإبداء اقتراحاتها الخاصة بالإصلاح الواجب إدخاله على شُعبها ، للاستفادة من خبرة هؤلاء فيما يتعلق بدوائرهم ، وذلك في 8 محرم 1346ه. ولقد قامت هذه اللجنة بدور كبير في تطوير الجهاز الإداري ، إذ إن الكثير من المجالس واللجان والأنظمة التي استحدثت بعد محرم 1346ه كانت نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لجهود هذه اللجنة بما قدمت من تقارير إيجابية وتوصيات سديدة أسهمت في عجلة التنمية في البلاد. هذا ولم يقتصر دور عملية الإصلاح على البحث عن موارد إضافية تساعد في البناء ، ولا على إيجاد أنظمة تيسر مسيرة العمل ، أو إقامة مشروعات نافعة ، بل إنه يحتاج إلى تأصيل الوعي وترسيخ روح الوطنية ، وتنظيم التفكير ، والإحساس بقيمة المسؤولية ، وإشاعة معاني التغيير والتطوير ، وهذا يحتاج إلى وقت ، غير أنه لابد منه لكونه الأساس القوي الذي عليه تقوم النهضات السليمة ، والحضارات الإنسانية. ويؤكد منير العجلاني في سفره المعنون ب (تاريخ مملكة في مسيرة زعيم) أن هذا المنطلق ولّد عناية الفيصل رحمه الله بالتعليم عناية بالغة ، فقد كان يزور المدارس بنفسه ويتحدث إلى الأساتذة والتلاميذ وينصحهم ، كما كان ينبه على ضرورة الجمع بين الأخلاق والعلم . لما كانت موارد البلاد في ذلك الوقت قليلة كان سموه يتبرع من ماله الخاص بجوائز للطلاب.