رأى الكاتب الدكتور إبراهيم النحاس أن التنمر الإداري الذي يمارسه بعض المسؤولين الإداريين تجاه الموظفين العاملين تحت إداراتهم يدل دلالة مباشرة ومعلنة على فساد هذا المسؤول وعدم التزامه بالنظام من خلال تسخير الموظفين العموميين لتقديم خدمات خاصة خارج المقر الإداري الذي يعملون فيه. جاء ذلك في مقال إبراهيم النحاس المنشور اليوم الأربعاء في صحيفة الرياض بعنوان "من أين يبدأ الفساد"؟ وجاء في نصه ما يلي: أعمال عظيمة، يفخر بها المواطن ويقدرها الوطن، تلك التي تقوم بها وتعمل عليها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، خاصة خلال الأعوام القليلة الماضية. فالمواطن لا يجامل عندما يبدي فخره واعتزازه بمؤسسة وطنية استطاعت خلال فترة قصيرة جدًا أن تثبت، بأدائها المميز، كفاءة ومهنية عالية طبقت فيها النظام، وتبنت خلالها أعلى معايير الشفافية. والوطن يقدر كل من يخلص في عمله ويتفانى في أداء واجباته الوطنية، ومن أمثلة ذلك رسالة الشكر التي تلقاها رئيس ومنتسبو هيئة الرقابة ومكافحة الفساد من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله -، وبثتها واس في 18 سبتمبر 2020م، وجاء فيها التالي: "بيض الله وجيهكم، وانقلوا شكري لكل فرد من منسوبي جهازكم، وهم اليوم فرسان هذه المعركة الشرسة ضد الفساد لاستئصاله من وطننا الغالي علينا جميعًا". وبعيدًا عن منجزات وإنجازات مؤسسات الدولة المعنية بمحاربة ومكافحة آفة الفساد، وأيضًا بعيدًا عن الجهود الجبارة المتواصلة لهيئة الرقابة ومكافحة الفساد التي تؤكد من خلالها، كما جاء في تصريحها الذي بثته واس في 26 نوفمبر 2020م، ب: "أنها مستمرة في رصد وضبط كل من يتعدى على المال العام أو يستغل الوظيفة لتحقيق مصلحته الشخصية، أو للإضرار بالمصلحة العامة ومساءلته حتى بعد انتهاء علاقته بالوظيفة، كون جرائم الفساد المالي والإداري لا تسقط بالتقادم، وأن الهيئة ماضية في تطبيق ما يقضي النظام بحق المتجاوزين دون تهاون..."، تبقى هناك تساؤلات عديدة تفرض نفسها منها ما يتعلق بالكيفية والماهية التي يمكن من خلالها القضاء أو التقليل من نسبة الفساد، ومنها ما يتعلق بالمدة الزمنية التي يتطلبها الوصول للهدف المنشود. وأهمية هذه التساؤلات أنها تساهم مساهمة مباشرة في تحديد أسباب المشكلة المتمثلة بآفة الفساد، وفي الوقت نفسه تساعد في وضع الخطط المنهجية لمعالجة المشكلة القائمة التي استنزفت الكثير من الموارد الوطنية، وتسببت بإعاقة وتعطيل الخطط التنموية والتطويرية. وفي الوقت الذي تبدو فيه تلك التساؤلات معقدة ومركبة، وتتطلب جهدًا جماعيًا، وفرق عمل متخصصة، وخبرات متنوعة؛ إلا أنه يمكن تبسيط تلك التساؤلات العميقة بتساؤل واحد قليل في كلماته ومباشر في معناه وهو: من أين يبدأ الفساد؟ ولعل الذي يميز هذا التساؤل المختصر جداً أنه يهدف إلى الذهاب مباشرة إلى أسباب المشكلة ليساهم بشكل أو بآخر في وضع الخطط الأولية للحد من تصاعد آفة الفساد، وفي الوقت نفسه يمنح الوقت للدراسات العميقة والخطط المنهجية الهادفة لمحاربة آفة الفساد بشكل علمي وعملي. إذاً، من أين يبدأ الفساد؟ بنظرة عامة أولية ومجردة، يمكن أن نقول: إنه إذا كان الهدر المالي واستنزاف الموارد المادية بطرق غير مشروعة يسمى فسادًا، فإن من يقوم به مسؤول أو موظف إداري؛ وإذا كان سوء تنفيذ المشاريع وتأخر إنجازها وتسليمها يسمى فسادًا، فإن من يشرف عليها مسؤول أو موظف إداري؛ وإذا كان إهمال الموارد البشرية الوطنية من أصحاب الكفاءات والخبرات المؤهلين تأهيلًا إداريًا ومهنيًا وفنيًا وإقصاؤهم ووضعهم جانبًا خوفًا من تميزهم يسمى فسادًا، فإن من يقوم به مسؤول أو موظف إداري؛ وإذا كان تكليف الأقل كفاءة وتجربة وخبرة إدارية ومهنية وفنية، وتقديم أصحاب العلاقات الشخصية والعائلية على حساب العمل والإنجاز يسمى فسادًا، فإن من يقوم به مسؤول أو موظف إداري؛ وإذا كان عدم الاستفادة من الموارد البشرية الوطنية المؤهلة تأهيلًا علميًا ومهنيًا وفنيًا، وتقديم الأقل كفاءة وتجربة والأضعف خبرة عليهم يسمى فسادًا، فإن من يقوم به مسؤول أو موظف إداري؛ وإذا كان غياب التخطيط يتسبب بضياع الفرص وهدر الوقت واستنزاف الموارد المالية والمادية والبشرية يسمى فسادًا، فإن من يقوم به مسؤول أو موظف إداري. إنها مؤشرات بسيطة يمكن من خلالها القول: إن الفساد سببه مسؤول أو موظف إداري لم يحفظ الأمانة التي أوكلت إليه، ولم يفِ بالعهد الذي قطعه على نفسه، ولم يؤدِ الواجب الذي أقسم على أدائه عند قبوله التكليف. هذه المؤشرات العامة توضح أن الفساد يبدأ من المسؤول أو الموظف الإداري الذي يعمل على تسخير سلطاته واستخدام صلاحياته لخدمة مصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة التي انتدب لخدمتها من خلال الموقع الإداري الذي تولاه. هذه الخطوة غير القانونية ستكون الخطوة الأولى لتأسيس هرمية الفساد في الموقع الإداري الذي يديره هذا المسؤول أو الموظف الفاسد، ليعم الفساد بعد ذلك باقي المستويات الإدارية والمالية الواقعة تحت سلطاته وصلاحياته. إن المسؤول والموظف الفاسد سوف يحرص أشد الحرص على تجاهل وتغييب الكفاءات والخبرات الإدارية والمالية المشهود لها بالنزاهة والمعروف عنها الانضباط والالتزام بالنظام لأنهم سوف يطبقون الأنظمة والقوانين التي تمنع فساده؛ وفي مقابل ذلك سوف يعمل على تولية المتسلقين من حديثي التجربة وضعيفي الخبرة لأنهم سوف يصادقون على فساده ويتماشون مع أهوائه ويصمتون بأقل القليل في سبيل خدمة مصالحهم الخاصة على حساب المصلحة العامة. وفي الختام من الأهمية القول: إن التنمر الإداري الذي يمارسه بعض المسؤولين الإداريين تجاه الموظفين العاملين تحت إداراتهم يدل دلالة مباشرة ومعلنة على فساد هذا المسؤول وعدم التزامه بالنظام من خلال تسخير الموظفين العموميين لتقديم خدمات خاصة خارج المقر الإداري الذي يعملون فيه، أو تهديدهم من خلال تقييمات الأداء الوظيفي إن لم يتماشوا مع فساده وسوء إدارته وممارسته لسلطاته، أو غيرها من ممارسات غير قانونية. إنه الفساد الإداري الذي يجب أن يحارب بدايةً لنتمكن بعد ذلك من القضاء على جميع أنواع الفساد، أو على أقل تقدير تقليل نسبته. إنه عمل وطني جليل يتشارك فيه المواطن الكريم مع مؤسسات الدولة المعنية بمكافحة الفساد.