بالأمس القريب سادت أجواء الحزن بين المنتسبين للقطاعات الصحية خاصة الأطباء بعد رحيل أحد زملاء المهنة إلى الرفيق الأعلى أثناء قيامه بالواجب في محاولة لإنقاذ مريض وإنعاشه بعد توقف قلبه ليكتب الله للمريض مزيداً من العمر ويسقط الطبيب أرضاً بسبب احتشاء حاد في عضلة قلبه ويفارق الحياة، لتنهال عبارات المدح والثناء على المرحوم وسرد الملحمات عن تفانيه في العمل الصحي، الكل يترحم على الميت، في حين أغلبهم ربما حتى السلام لا يرده على المرحوم في حياته (اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء). د.أبو الريش أستاذ واستشاري أفنى عمره معلما ومدربا وقبل هذا وبعده هو طبيب ناجح يشار إليه بالبنان، قضى عمره يعمل في صمت، لم يتوان يوما عن مساعدة مريض، قاموسه خال من عبارة "لا أستطيع"، فقد نذر نفسه لخدمة الجميع الصحيح قبل المريض. يوم تقاعده لم يجد أحدا في وداعه اللهم إلا عامل النظافة في القسم حن على طبيبنا المسكين وأعانه على حمل بعض الدروع والشهادات التي حصل عيها من مشاركاته الداخلية والخارجية، أنتج عشرات الأبحاث وألف عديد الكتب بعضها أصبح من المراجع في تخصصه، لقد كان مضرب العمل والأخلاق والتعامل الحسن. بعد تقاعده بسنوات أصابه المرض وهد جسده النحيل، وكما كان في صحته منسيا كان الحال في مرضه، عندما داهمه المرض حاولت عائلته إدخاله للمستشفى الذي قضى فيه أكثر من أربعين عاماً لم يجدوا له سريرا ليمكث في الطوارئ بضعة أيام، وبعد الوساطات وحب الخشوم وجد سريرا في غرفة مشتركة مع مرضى آخرين بعد أن ضاقت به الغرف الخاصة بالموظفين بحجة أنه متقاعد، ومعاناته لم تستمر طويلاً والفضل للإهمال التي يجده للأسف بعض المرضى لانشغال الفريق الصحي!، انتقل إلى رحمة الله لتبدأ صفحة جديدة في تاريخ الطبيب الميت، فقد أعلن المستشفى الحداد لأسبوع وبكاه الجميع من المدير إلى الغفير، وانطلقت عبارات العزاء والتأبين، ليتفق الجميع على أنه نابغة زمانة وجوهرة نادراً أن يجود الزمان بمثله، اقترح أحدهم أن يتم إطلاق اسمه على جناح كبار الشخصيات في المستشفى، واقتر آخر أن تسمى قاعة المحاضرات الكبرى باسمه، وأعلن قسم الأبحاث عن استحداث جائزة باسم المرحوم للتميز البحثي، كما قررت إدارة المستشفى صرف جميع مستحقاته المالية، ومعاقبة الشؤون الإدارية على التقصير والتكاسل والمماطلة في معاملة المرحوم، تلاميذه قرروا بناء مسجد وحفر بئر للمرحوم، نعاه معالي المسؤول الذي كان أحد تلاميذه قائلا: اليوم سقط عمود من أعمدة الطب ليس في بلدي بل في العالم. نسمع بين الحين والآخر بتكريم لاعب أو تكريم معلم ومدير، ونادرا ما نسمع بأن هناك طبيبا كرم إلا من قلة من طلابه وعائلته. ألم يأت الأوان أن نلتفت للطاقم الصحي ونؤسس جمعية أو هيئة تعتني بالجميع وفي مقدمتهم الأطباء تساعد المحتاج منهم ليس شرطاً المساعدة المالية. معشر الأطباء هم بشر وحالهم حال كثير من طبقات المجتمع أثكلت كاهل بعضهم الديون، وهد أجساد بعضهم المرض، وتقطعت ببعضهم السبل وانقطعت بهم الأسباب. في ال 30 من مارس تحتفل بعض دول العالم بيوم الطبيب، هذا اليوم والأطباء في أمس الحاجة للوفاء وتقديم الشكر والتكريم لأساتذة تركوا المهنة ليلحقوا بركب (المتقاعد)، بعد أن قدموا للوطن والمجتمع خدمات جليلة منهم من رحل عن الدنيا ومنهم من نسيناه في زحمة الدنيا، رحم الله من مات وأطال في عمر من بقي على قيد الحياة وكتب لنا أجر النية في تكريم من علمونا حرفاً ولم نستطيع أن نرد ولو شيئا يسيرا من الجميل.