فرغ أبناؤنا الطلاب، وبناتنا الطالبات من المنتسبين والمنتسبات في الجامعات السعودية هذه الأيام من أداء اختباراتهم النهائيَّة، وهؤلاء يمثِّلون الدفعات الأخيرة من طلاب الانتساب، الذي سيتوقَّف معظم أقسامه في الجامعات، ويتحوَّل معظم الطلاب إلى نظام التعليم عن بُعد، أو التعليم الإلكتروني (E-Learning)، الذي سيصبح حكرًا على الجامعة الإلكترونية، التي يجري العمل على تشغيلها، وتفعيلها منذ سنوات، بالاستعانة بالخبرات الأكاديميَّة السعوديَّة في هذا المجال من الجامعات السعوديَّة كافّةً، وفي طليعتها جامعة المؤسس، التي تُعدُّ رائدة التعليم عن بُعد بين جامعات المملكة، وأوَّل جامعة تخصِّص عمادة للتعليم عن بُعد، أصبحت ملء السمع والبصر. وعلى الرغم من أن التعليم الإلكتروني أصبح واقعًا ملموسًا لا مفر منه، وتتَّجه إليه كثيرات من الجامعات حول العالم، إلاَّ أنَّ الكثير من أصحاب الخبرة الطويلة في التعليم الجامعي -وأحسب أنَّني واحد منهم- يرون أن الانتساب كان مثمرًا وبنَّاءً خلال عمره الطويل في الجامعات السعوديَّة، الذي يتجاوز أربعين سنة، وقد عايشته منذ بداياته الأولى في جامعة الملك عبدالعزيز، في التسعينيات الهجريَّة، حين كنتُ معيدًا، وعدتُ لأعمل أستاذًا لكثير جدًّا من مواد الانتساب بعد عودتي من البعثة، إضافة إلى الإشراف على الاختبارات في مقر الجامعة الأم بجدَّة، وفي المناطق المختلفة من المملكة خلال ثلاثين عامًا أو يزيد، كما عشتُ تجارب التدريس للطلاب والطالبات عن بُعد، باستخدام نظام (سنترا)، و(بلاك بورد) على مدى سنوات طوال، وتلقيتُ مع بعض الزملاء دورةً تدريبيَّةً مكثَّفةً في جامعة فرجينيا عام 2005م في التعليم الإلكتروني، واستخدام (بلاك بورد) على وجه التحديد، لذلك أحسب أن المفاضلة بين نظام الانتساب، والتعليم عن بُعد أمرٌ يمكن لي البت فيه عن دراية، وعلم، وتجربة. لاشك في أن التعليم الإلكتروني يهيّئ الاستعانة بكثير من تقنيات التعليم العالميَّة، كما يوفّر على الطلاب والأساتذة الجهد والوقت والمال، إذ يتابع الطلاب الدورات المقدَّمة لهم وهم في بيوتهم، أو مقار عملهم، ويستطيعون العودة إليها في أيّ وقت لأنَّها مسجلة، ويدخل في ذلك المواد التي تدرس طوال العام، والدورات القصيرة التي تستمر لثلاثة أسابيع، أو نحوها، ويمكن لهم التفاعل مع الأستاذ، وسؤاله، والتداخل معه بحريَّة تامَّة، ولكن كل هذا يحدث في غيبة اللقاء المباشر مع الأستاذ، أو (الشيخ) -إذا صح التعبير-، فقد تحوَّل (الشيخ) إلى شاشة صمَّاء، وصوت عبر السمَّاعات، وخطاب بضغط أزارير، أو بالتحدّث في بعض الأحيان، وهكذا، أمَّا نظام الانتساب، فكان يتيح للطلاب والطالبات حضور بعض المحاضرات الشخصيَّة (Live) في الحرم الجامعي، واللقاء مع أساتذتهم، وأستاذاتهم، وتكوين علاقة الأبناء بالآباء التي لا يمكن أن يكوِّنها جهاز الكمبيوتر المصمت، ويعيش هؤلاء الطلاب الحياة الجامعيَّة بين الأروقة، والردهات، وقاعات الدرس لأسبوعين، كل فصل دراسي على الأقل، بينما قد يبدأ طالب التعليم عن بُعد دراسته، ويتخرَّج دون أن يزور الجامعة ولو لمرَّة واحدة، ويفيد طلاب الانتساب من الدورات بنفس القدر الذي يفيد منها طلاب التعليم عن بُعد. والمهم أن العلاقة التي تنشأ بين طالب الانتساب، وأستاذه تستمر مدى الحياة، وبعض طلابنا المنتسبين مازالوا يتواصلون معنا منذ ثلاثين عامًا، ورغم إيماننا بأن التعليم الإلكتروني قد فرض نفسه، إلاَّ أننا كنَّا نتمنَّى لو بقي نظام الانتساب جنبًا إلى جنب التعليم الإلكتروني، وفي كلٍّ خير. [email protected]