بعكس مايعتقدُ البعض، أن تكونَ وزيرَ خارجية دولة هامة أصعبُ بكثير من أن تتولى المسؤولية نفسها في دولةٍ صغيرةٍ أو هامشية. أما حين تكون الدولة مثل السعودية، بموقعها في الجغرافيا السياسية، وفي التاريخ، وبشبكة علاقاتها المعقدة والواسعة مع دول العالم أجمع، وبرؤيةٍ سياسية خاصة تحاول الحفاظ على التوازنات السياسية والاقتصادية والثقافية، فهذه بالتأكيد مهمةً في غاية الصعوبة. ثمة مسؤوليات ملقاةٌ على عاتق من يكون في هذا الموقع لايعيشها في النهاية إلا صاحبُها. فدرجة التوازنات التي يجب أن يُحافِظ عليها في كل موقفٍ وتصريحٍ وكلمة كبيرةٌ جداً، وبالتالي فإنها تتطلب دوماً إنجاز حسابات نفسية وفكرية وسياسية ليس لها نهاية. من الواضح أن سعود الفيصل، رحمه الله كان مهيأً لتلك المهمة. إن كان لجهة خلفيته العلمية أو تجاربه الإدارية أو خبرته الطويلة، هذا فضلاً عن صفاته الشخصية. لايعرف الكثيرون مثلاً أن الرجل تخرج من جامعة برنستون، إحدى أعرق الجامعات الأمريكية، في الاقتصاد، وأن َّ هذا حصل منذ أكثر من خمسين سنة، في عام 1964م. ربما تظهر المفارقة إذا حاولنا البحث عن عدد وزراء الخارجية العرب والمسلمين الذين امتلكوا تلك الخلفية العلمية، وفي ذلك الوقت المبكر.. وعلى مدى أكثر من عشر سنوات عمل الراحل في عدة مواقع أكسبته خبرةً متنوعة. فمن مستشار اقتصادي في وزارة البترول والثروة المعدنية، إلى مسؤول عن مكتب العلاقات البترولية الذي ينسق بين الوزارة وشركة بترومين، إلى نائب لمحافظ الشركة لشؤون التخطيط، وصولاً إلى وكيلٍ للوزارة المذكورة. هكذا، أطل َّ الرجل على ساحة العمل الحكومي من زوايا مختلفة، فالاستشارة ليست كالإدارة، والتنسيق يختلف عن التخطيط، لكن العمل في مجالاتها سوياً يُكسب المرء رؤيةً شموليةً تؤهلهُ بجدارة لمنصبه الكبير القادم، حين عُين وزيراً للخارجية. فإذا أضفنا إلى هذا ثقافة الرجل ومعرفته، حسبما يؤكد العارفون، بسبع لغات منها الإسبانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والعبرية والإنجليزية، يمكن بسهولة معرفة السبب في استمراره وزيراً للخارجية أربعة عقود. ثمة نقطةٌ تجدرُ الإشارة إليها هنا.. فملوك السعودية ، مع أن لكلٍ منهم شخصيته الخاصة ورؤيته المعينة وحُكمهُ المختلف على الأشخاص، ومع الاختلاف الهائل في الظروف الإقليمية والدولية التي واجهت السعودية والعالم خلال أربعين عاماً. رغم هذا، كان الإجماع متوافراً بينهم على أن الرجل هو خيرُ من يقوم بمهمته في إطار توجيه دفة السياسة الخارجية بما ينسجم مع الاستراتيجيات الكبرى للمملكة، والتوازنات التي تتطلبها للإبحار في أمواجها العاتية. لايتسع المقام هنا لعشرات المشاريع والمواقف والتصريحات التي صدرت عن الرجل. لكن من الضرورة بمكان استذكار موقفٍ حساس له علاقة بما يجري في عالمنا العربي اليوم. ففي كلمته أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في 20 سبتمبر 2005م، انتقد الفيصل السياسة الأمريكية في عقر دارها قائلاً: «إذا سمحتم بحربٍ أهلية فإن العراق سينتهي إلى الأبد.. لقد خضنا معاً حرباً لإبعاد إيران عن العراق بعد طرد العراق من الكويت.. والآن فإننا نسلم البلاد كلها لإيران دون مبرر». ثم تابع قائلاً بوضوحٍ وصراحة: «الإيرانيون يذهبون إلى المناطق التي تؤمنها القوات الأمريكية ويدفعون أموالاً... ويُنصِّبون أناسهم، بل وينشئون قوات للشرطة ويسلحون الميليشيات التي هناك، وهم يحتمون أثناء قيامهم بكل هذا بالقوات البريطانية والأمريكية». لانعرفُ إن كانت السياسة التي انتقدها الفيصل يومها، وهو ينظر إلى المستقبل، غباءً أو فِعلاً مقصوداً من قبل أصحابها.. فالأمران واردان بنفس نسبة الاحتمال! لكن ما نعلمه أنها كانت شهادةً تُسجلُ للتاريخ سطَّرها الراحل. وسيكون من الوفاءِ له اليوم ألا تبقى شهادةً تاريخية، وأن يستمر العمل في معالجة نتائجها الكارثية بكل جديةٍ وحزمٍ وإصرار. [email protected]