في اللغة العربية كلمات كثيرة تشترك في المعنى العام، وهذه تعرف عند اللغويين: بالمترادفات. ومن ذلك: (الأسد، الليث، الغضنفر، أسامة). ومن ذلك: (السيف، المهند، الحسام، الصارم). ومن ذلك: (البخل والشّح) و(الجلوس والقعود) و (وعمل وفعل) و(الإخوة وإخوان). وقد انقسم علماء اللغة حول ظاهرة الترادف إلى فريقين: فريق أيّد وجود الترادف في العربية، ورأى تعدد الألفاظ على المعنى الواحد دليلًا على ثراء اللغة العربية، وعلى قدرتها على التصرّف، وعدّ ذلك من المزايا النادرة التي يفتخر بها!! ومن هؤلاء: ابن السِّكيت في كتابه «الألفاظ» والفيروز أبادي في كتابه «الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف». والفريق الآخر.. رفض وجود الترادف في العربية، ورأى أن كل كلمة من المترادفات لها معنى خاص، وقام بعضهم يوضّحون الفروق الدقيقة في دلالة كل لفظ من هذه المترادفات وقرروا أن واحدًا من المترادفات هو الاسم، وأن البقية صفات، وقالوا: إن المتكلم الفاهم لأسرار العربية هو الذي يحسن اختيار الكلمة المناسبة للمعنى المراد!! ومن هؤلاء: أبو منصور الثعالبي في كتابه «فقه اللغة وسرّ العربية» وأبو هلال العسكري في كتابه «الفروق اللغوية». *** هذا والتعبير القرآني هو أدقّ التعابير وأصحّها في التفريق الدقيق بين ما نراه من المترادفات، ففي القرآن الكريم لكل معنى خاص لفظ خاص به.. يدور اللفظ مع معناه حيثما وقع في كتاب الله العزيز.. وهذه عجيبة من عجائب القرآن، وصورة من صور إعجازه اللغوي.. وإليكم بعض الأمثلة على ذلك: المثال الأول: (عيون وأعين) .. هاتان الكلمتان جمع لكلمة (عين).. وفي اللغة عين لها معان كثيرة أشهرها اثنان: الأول: (العين الباصرة الناظرة)، والثاني (عين الماء الجارية). وعامة الناس لا يفرّقون في الاستعمال بين (الجمعين).. فيستعملون كل كلمة منهما في المعنيين، وخاصة كلمة عيون. أمّا القرآن الكريم.. فلا يستعمل كلمة (عيون) إلاّ في (عيون الماء الجارية). ولا يستعمل كلمة (أعين) إلا في (الباصرة الناظرة). هذا وقد جاءت فيه كلمة (أعين) ثماني عشرة مرة، وكلها في الأعين الباصرة الناظرة، من ذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) الاعراف 116. وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) غافر 19. وقوله: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) الأنفال 44 وجاءت فيه كلمة (عيون) عشر مرات، وكلها بمعنى: عيون الماء الجارية، ست منها في (عيون الدنيا)، والأربع الباقيات عن (عيون الآخرة).. من ذلك: قوله تعالى: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) القمر 12. وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الدخان 25. وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ) المرسلات 41. وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الحجر 45. المثال الثاني: (سنة وعام).. لكل كلمة منهما دلالة في الفلك، ودلالة في اللغة.. ففي الفلك (السَّنَة) تطلق على السنة الشمسية، التي تعدّ بالأيام. ومنها (السنة الميلادية) و(العام) يطلق على العام القمري، والذي يعدّ بالليالي. ومنه (العام الهجري). وكل سنة شمسية تساوي ثلاثة أعوام قمرية، يدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) الكهف 25. أما في اللغة.. فالسّنة معناها: الجدب والقحط والمشقة. والعام معناه: الرخاء والخصب والراحة. والقرآن الكريم يستعمل (السنة) دومًا مع الشّدة، ويستعمل (العام) دائمًا مع الراحة. وقد جاءت كل كلمة منهما في كتاب الله العزيز سبع مرات.. من ذلك: قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) المائدة 26. وقوله تعالى (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) الأحقاف 15. وقوله تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) و(ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) يوسف 47 و49. وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) لقمان 14. وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) العنكبوت 14. المثال الثالث: (امرأة وزوج).. المرأة أنثى الرجل، والرجل زوج المرأة، والمرأة زوج الرجل، والعامة يقولون: (زوجة). وعامة الناس لا يفرّقون بين امرأة وزوج فيقولون: هذه امرأة فلان أو زوج فلان!! والتعبير القرآني البليغ البديع يأبى ذلك، وذلك لوجود فرق دقيق بين الكلمتين.. فكلمة (امرأة) تدل على مجرد الأنوثة، وأما كلمة (زوج) فتدل على المزاوجة والمشاكلة.. والقرآن الكريم لا يطلق كلمة (زوج) إلاّ على امرأة توافرت فيها مواصفات المزاوجة مع رجُلها، وأعلاها أن تتفق معه في الدين الصحيح، وأدناها أن تقبل الحمل والولادة.. فإن فُقدت هاتان الصفتان أو إحداهما.. فالأنثى (امرأة) وليست زوجًا.. والرجل (بعل) وليس زوجًا. فهذه (حواء) قرينة (آدم) عليهما السلام.. هي على دينه الصحيح دين التوحيد، وهي أم بنيه.. لهذا فهي زوجه لا امرأته، قال تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) البقرة 35. أما (واعلة) قرينة (نوح) عليه السلام، وأما (واهلة) قرينة (لوط) عليه السلام.. فقد خانتاهما في الدّين، لذا فكل واحدة منهما (مرأة) وليست زوجًا، قال تعالى: (وضرب الله مثلًا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما...) التحريم 10. وهذه (السيدة آسية) قرينة (فرعون) كانت مؤمنة، وهو الكافر.. إذًا فهي امرأته وليست زوجه، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) التحريم 11. وأما (أم جميل) قرينة (أبي لهب) هي أم أولاده، ولكن كلاهما كان كافرًا، لهذا فهي امرأته وليست زوجه، قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) المسد 4. وهذه (السيدة سارة) قرينة (سيدنا إبراهيم) عليهما السلام.. هما مؤمنان ولكنها هي كانت عاقرًا لم تحمل بعد، فالصفة العليا في الزوجية موجودة، والصفة الدنيا مفقودة، لهذا فهي امرأته، وليست زوجه، قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ) هود 71. صحيح أنها حملت (باسحاق) عليه السلام، لكن القرآن عندما اطلق عليها (امرأة) كانت في حالة العقم، وبعد الحمل لم يرد ذكرها في الآية: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ). بينما قرينة (زكريا) عليه السلام.. فقد ذكرها القرآن الكريم في الحالتين: ففي حال العقم أطلق عليها (امرأة) وفي حال الحمل أطلق عليها (زوجًا) قال تعالى في الحالة الأولى على لسان زكريا: (... وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) آل عمران 40. وقال تعالى: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) مريم 5. فلما استجاب الله دعاءه ووهب له ابنه (يحيى) أطلق القرآن على امرأته كلمة (زوجة): (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) الأنبياء 90. هذا وقوله تعالى في (حنة) قرينة عمران: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا..) آل عمران 35. فهذه الآية تتحدث عنها وهي أرملة قد مات زوجها بعد أن حملت منه (بمريم) فعند قولها هذا ليس لها زوج فهي امرأة عمران وليست زوجه. وأمّا (زُليخا) قرينة عزيز مصر.. فهي لم تحمل منه، ثم هي خانته بمراودة (فتاها يوسف) عليه السلام، لهذا فهي امرأة وليست زوجًا قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ..) يوسف 30. واذا لم تتزوج الأنثى فهي في التعبير القرآني (امرأة) من باب أولى.. من هؤلاء: (بلقيس) ملكة سبأ، قال تعالى على لسان الهدهد: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ...) النمل 23. و(ابنتا صاحب مدين) قال تعالى في قصة (موسى) عليه السلام: (وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ..) القصص 23. و(أم شُريك) التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ...) الأحزاب 50. وإن كانت الأنثى متزوجة وبعلها يترفع عنها ويعرض عنها فهي امرأة كما قال تعالى في (خولة بنت محمد بن مسلمة): (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا...) النساء 128. فسبحان الله العظيم منزل هذا القرآن الحكيم بلسان عربي معجز مبين.