هذه الأحاديث الشريفة التي رواها أئمة الحديث الشريف وعلى رأسهم الإمام مسلم في صحيحه تؤكد صعود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبل النور بمكة شرفها الله. ومن المرجح أنه كانت بعيد فتح مكة شرفها الله، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبشّر أحدًا بالجنة وهو بمكة قبل الهجرة، وإنما بشّر من بشّره بالجنة بالمدينةالمنورة بدليل أن سيدنا أبابكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم بشرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة وهم بالمدينة كما في حديث سيدنا أبى موسى الأشعري رضي الله عنه الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: أنه توضأ في بيته ثم خرج، فقال: لألزمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأكونن معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد، فسأل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: خرج وجه ههنا، قال: فخرجت على أثره أسأل عنه، حتى دخل بئر أريس، قال: فجلست عند الباب، وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، قال: فسلمت عليه ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بوّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليوم، فجاء أبوبكر، فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال أبوبكر، فقلت: على رسلك، قال: ثم ذهبت، فقلت يا رسول الله: هذا أبوبكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشّره بالجنة، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبشّرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه في القف، ودلى رجليه في البئر، كما صنع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكشف عن ساقيه. ثم رجعت، فجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: أن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيرًا يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه، وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشّره بالجنة، فجئت عمر، فقلت أذن ويبشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، قال: فدخل، فجلس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست، فقلت: أن يرد الله بفلان خيرا يعني أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك قال: وجئت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشّره بالجنة مع بلوى تصيبه، قال: فجئت، فقلت: ادخل ويبشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل، فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاههم من الشق الآخر. قال: شريك فقال سعيد بن المسيب: فأوّلتها قبورهم. وبناء علي ذلك: كانت هذه البشارة لهم بالجنة ولأول مرة بالمدينةالمنورة، فعليه يكون صعود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبل حراء بعد الفتح بكل تأكيد. وفيه أيضًا تصحيح لبعض المعلومات الخاطئة: التي تقول أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرق حراء أو جبل النور منذ انقضاء نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلّم في أول البعثة، ولعل هؤلاء لم تصلهم هذه الأحاديث بعد. (3) وأما جبل ثبير: فهو جبل عظيم شامخ بمكة المشرفة، وهو من جبال الحرم بقرب منى، يزيد ارتفاعه على الميل والنصف تقريبًا. ويشرف على مكة المشرفة من جهة الشرق، ويشرف على منى من جهة الشمال، ويقابل جبل حراء من الجنوب، ويسمى اليوم عند عامة أهل مكة جبل الرخم ويرى على أعلى قمته بياض كالثلج أو النورة. وهو جبل معروف وظاهر. وهناك جبال عدة بهذا المسمى. وجبل ثبير من الجبال الفاضلة التي تشرفت وسعدت بصعود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه كما سيأتي. وهو الجبل الذي اهبط عليه كبش فداء سيدنا إسماعيل عليه السلام حين فدى به. وكانت قريش إذا أصابها قحط أخذت بيد عبدالمطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبل ثبير يستسقون به فيسقيهم الله تعالى ببركة ذلك النور المحمدي كما ذكرها الإمام على بن برهان الدين الحلبي في سيرته. وورد في السيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يلجأ إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى أثناء فترة الوحي عنه صلّى الله عليه وسلّم. فقال له ثبير والنبي صلّى الله عليه وسلّم على ظهره: أهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب. فقال له حراء: هلم إلى يا رسول الله. وكان المشركون في الجاهلية يقفون على المزدلفة ولا يتجازونها وينصرفون إلى منى بعد أن يناظروا الشمس على ثبير، ويقولون أشرق ثبير كيما نغير. وقد صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جبل ثبير ومعه سيدنا أبوبكر الصديق وعمر الفاروق وسيدنا عثمان بن عفان رضوان الله عليهم. روى ذلك الإمام الترمذي في سننه عن ثمامة بن حزن القشيري، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألّباكم عليَّ، قال: فجيء بهما، فكأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال فأشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعملون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه من دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي؟ فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب ماء البحر؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم، قال أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا: اللهم نعم، ثم قال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان على ثبير مكة، ومعه أبوبكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، قال: فركضه برجله، وقال: اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان؟ قالوا: اللهم نعم، قال: الله أكبر، شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد ثلاثًا. قال أبوعيسى هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن عثمان. وروى هذا الحديث بلفظه الإمام النسائي في سننه الكبرى. ورواه أيضًا الإمام الدارقطني في سننه. ورواه الإمام عمرو بن أبى عاصم في السنة. ورواه أيضًا الإمام أبوجعفر الطحاوي في مشكل الآثار وغيرهم. ولكن لم يرد شيء في تاريخ صعود النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه إليه حينما اضطرب تحت قدميه صلّى الله عليه وسلّم. ولكن ورد أنه صعد إليه أيام فترة الوحي. وربما بعد ذلك أيضًا قبيل حجة الوداع، لما رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه بسند فيه ضعف، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه الإمام أبوعبدالله الحاكم في المستدرك، وقال صحيح ولم يخرجاه، ورواه الإمام البيهقي في السنن: عن الإمام عبدالله ابن العباس رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذهب به ليريه المناسك، فانفرج له ثبير، فدخل منى، فأراه الجمار ثم أراه عرفات، فتتبع الشيطان النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ، ثم تبع له في الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ، ثم تبع له في جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ فذهب. والله تعالى أعلم. وروى الإمام البخاري رضي الله عنه في صحيحه عن الإمام عطاء التابعي: أن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها كانت قد خيمت في جبل ثبير في قبة تركية. والله تعالى أعلم. وتمتاز هذه الجبال الثلاثة بإعلانها الاستبشار بالاضطراب عندما اعتلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنها ليست هي التي ينحصر عليها صعود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجبال، فهناك جبل ثور، وهو بمكة شرفها الله، وقد صعد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومكث فيه ثلاث ليال مختفيا في غاره المبارك إبّان هجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينةالمنورة الشريفة ومعه الصديق سيدنا أبوبكر رضي الله عنه وخبره مشهور. وصلّى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. (*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية - المدينة المنورة