لم يكن عمرو بن العاص في حالة وفاق ومودة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه حين أوفدته قريش إلى ملك الحبشة لاستعادة مَن هاجر إليه مِن أصحاب رسول الله، بل كان في حينه من أشد الناس عداوة للنبي ودعوته، ولمن آمن بها، ومع ذلك فحين تنادد مع جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- أمام النجاشي، لم يسع ابن العاص إلاّ أن يقول الحق مروءةً وصدقًا، وقد كان بوسعه أن يُراوغ ويَكذب ليكسب الجولة ويقتاد المهاجرين معه إلى مكة، فيرتفع شأنه كثيرًا بين قومه، ويَبُزَّ كل أقرانه من سادة مكة قاطبة. تذكر الحكاية أنه في تلك المواجهة المصيرية التي كادت مع بدايتها أن تؤول بالنصر لابن العاص، صاح جعفر بن أبي طالب وقال: أيُّها الملك، لقد قال لنا نبيّنا عليكم بالهجرة إلى الحبشة؛ فإن بها ملك لا يُظلم عنده أحد، ثم طلب الحوار مع عمروٍ مُبتدأ بقوله للنجاشي: سَلْهُ، أعبيد نحن أبقنا من أربابنا أم أحرار؟ فأجاب عمرو: بل أحرار كرام، فقال جعفر: هل أهرقنا دمًا بغير حق فيُقتص منا؟ فقال عمرو: ولا قطرة، فقال جعفر: هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال عمرو: ولا قيراط. وهنا تدخل النجاشي فقال: فما تطلبون منهم إذًا يا عمرو؟ فأجابه بقوله: كنا نحن وهم على أمر واحد على دين آبائنا، فتركوا ذلك واتبعوا غيره، فسأل النجاشي جعفرا: ما هذا الذي كنتم عليه وما الذي اتبعتموه؟ فقال جعفر: أيُّها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ويأكل القوي منّا الضعيف، وكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى الله نعبده ونوحّده، ونقيم الصلاة، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، فصدّقناه وآمنّا به واتّبعناه، فبغى علينا قومنا وعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأصنام، فلمّا قهرونا خرجنا إليك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك. كم هي عجيبة هذه الحكاية لمن تأمَّل فيها وتدبر، إذ كيف حافظ عمرو بن العاص على مروءته فلم يكذب ولم يُدلس ولم يتقوّل بالباطل، وقد كان قريبًا من النجاشي، مُصََدَّقا عنده لصحبة قوية بينهما، لكنه أبى إلا أن يُحافظ على مروءة عربية أصيلة، فقال الحق ابتداءً، كما لم يتشدد بالإنكار على شرح جعفر لطبيعة الحال، وحقيقة أصل ونسب النبي المختار، وإن كان قد حاول اللعب على ورقة يُتْمِه وقلّة ماله. الشاهد من ذلك كله هو: هل لا يزال للمروءة مكان بيننا اليوم حال اختلافنا فكري ومذهبي؟! أترك الإجابة لكم، والله المستعان. [email protected]