ومن آداب الدعاء ألا يشتمل على إثم ولا يكون الداعي متلبِّسًا بمعصية، ففي الحديث: (يُستجاب لأحدكم ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم)، فإن مَن يدعو بإثم أو يدعو، وهو واقعٌ في ذنبٍ مصرٌّ عليه، فشأنه شأن المستهزئ بمن يدعوه، ومنها أنْ يثق الداعي بوعد الله له، فلا يشكّ في الوعد وإن لم يجد الإجابة، وهو ما أشار إليه ابنُ عطاء الله السكندريُّ بقوله: (لا يكنْ تأخُّرُ أَمَدُ العطاءِ مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك، فهو ضمن لك الإجابة فيما يختارُه لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد) فإنه سبحانه أدرى بما يَصلح لك منك، فربما طلبتَ شيئًا، وكان الأولى مَنْعُه عنك، لطفاً منه سبحانه بك، فيصير المنعُ منه عينَ العطاء لك، فلا يجوز اتهام الله في وعده، يعرف ذلك مَن تَحَقَّقَ بمقام قوله تعالى: (وَعَسى أن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ومنها ألا يستعجل فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، فيقول قد دعوتُ فلم يُستجب لي) ذلك أنَّ عدم الاستعجال أولى بالعبيد، وهو عنوان الرِّضا، فإنَّ مَن تحقَّق بالرضا بالقضاء تحصل له السكينة والطمأنينة، والعجلة لا تجتمع مع السكينة، وقد قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْدَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)، أي لا تستعجلا وعدي الذي لا تبدُّل فيه ولا خُلْف، ذلك أن الله إذا أطلق لسانك بالدعاء فاعلم أنه أراد أن يعطيك، فمن أُعطي الدعاء لم يُحرم الإجابة، فلا تحرص ولا تستعجل فكل شيء عندَه بمقدار، فكفى بك شرفًا أن تدعوه فيجيبك، ويختار لك الأولى والأصلح في العاجل والآجل، فالاستعجال سبيلُ الذين لا يعلمون حقيقة وَعْدِه سبحانه، لأنه سبحانه حين وعدَ جعل وعْدَه مطلقًا، ولم يقُل بعين ما طلبت، ولا متى شئتَ، ولا كيفما أردتَ، وقد نبَّه إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إمّا أنْ يعجِّل له دعوته، وإمّا أن يدَّخرها في الآخرة، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها)، فاختيار عين الإجابة جعله اللهُ موكولاً إليه، وكذلك اختيار وقْتها، فمن الحكمة في ذلك أن الكريم حين يسألُه مَن يعزُّ عليه فإنه يعطيه أفضل ما يعلمه له، فحِكَمُهُ سبحانه في عطاياه لا تنقضي ومِننُه لا تتناهى، فيختار له العطية لتصل إليه في أنسب الأوقات، وعلى أكمل وجهٍ وأتمِّه، فَمِن الرفق بالعبد ألاَّ تُقصر إجابةُ دعائه بعين ما طَلَب، لأن العبد جاهلٌ بالأصلح له، ومن الحكمة في ذلك ألا يكون في الإجابة ما يُفيد التحكُّم على الله، فالأقوى لمقام الربوبية يقتضي تنويعَ صور الإجابة، ومن الحكمة في التكليف بالدعاء أن تتجلَّى صفةُ العبودية في الداعي، فتظهر عليه دلائل الاضطرار، فإذا كانت الإجابةُ حتمًا بعين ما طلب، وفي الوقت الذي طلب، لَمَا ظهر من العبد اضطرارٌ ولا فاقة، وهذا منافٍ لحكمة التكليف بالدعاء، قال بعض العارفين: فائدةُ الدعاء: إظهار الفاقة بين يديه، وإلاّ فالربُّ يفعل ما يشاء، وآية ذلك أن عنايته سبحانه قد واجهتْنا، ورعايتُه قابَلَتْنا ونحن في عالم الذرِّ قبل أن نعرف كيف ندعو، فتولانا بتدبيره في جميع أطوارنا، فكان الأَولى بنا أن نتحقق بالأدب معه والهيبة له، لنبلغ مقامات الرجال، لا أن نبقى بمنزلة الصِّغار، فأشرفُ أوقاتنا وقتٌ نشهد فيه وجودَ فاقتنا، ونُردُّ فيه إلى وجود ضعفنا، لِما في ذلك من تحقيق العبودية لله وتعظيم شأن ربوبيته، فالتحقُّق بالعبودية مقامٌ عظيم، فأشرف أسمائك يا ابن آدم اسمٌ أضافك إلى مولاك ونسبك إليه، ولذلك خاطب الله أشرف أنبيائه بذلك تشريفًا «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً »، « فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى » أسأل الله أن يرزقنا الفهم عنه فلا نيأس من الإجابة، وألاَّ يجعلنا ممّن جَهِلَ كرم مولاه وقيل فيه: اقضوا حاجته فإني أكره أن أسمع صوته، فإن مَن عرف الله لم ييأس منه في بلاء، بل سَيُلِحُّ في الدعاء، وسيترك اختيارَه لاختيار مولاه.