إبراهيم السمحان أحد الذين يلوّحون للفجر بأياديهم البيضاء، كتب القصيدة الجديدة ذات غفلة من أعين الشعراء، وعلى حين غرة من النقاد والكتّاب، كان أحد أقطاب النص الحديث عندما لم يقم لأغلب شعراء الساحة اليوم قائمة، ولن أبالغ إن قلت إن تسعين بالمائة من شعراء جيل ما بعد السمحان عالة عليه، بل لو جازفت بأن قلت إن من بعض الشعراء الذين كتبوا مع السمحان نفسه ذات شعر كانوا فعلًا عيالًا عليه. ومنذ عرفت السمحان في أواخر الثمانينيات، وتحديدًا في 1989م لم يكن حرصه على النشر بأكثر من حرصه على أن يكتب شيئًا مختلفًا عن السائد والمألوف، وإنني أعتقد أن هذا الشاعر مثله كمثل مشرف الشهري في عدم إنصاف العامة له، مع الفارق في التجربة طبعًا، لا بل ومن أكثر المثقفين ممن يرصدون لتجربة الشعر سواء على مستوى الأكاديميين الذين يُمغنط لهم عن طريق الدعوات الأخّاذة أو عن طريق المجتهدين أمثال العبد الفقير، ولذا فإن تجربة شعراء ما قبل التسعينيات لم تعط حقها من الإنصاف حتى اللحظة، كثير من أولئك أتوا وذهبوا دون أن يدوّن لهم بقلم واحد، ومن هؤلاء إبراهيم السمحان، وحينما أقول: بقلم واحد لا أعني أنه لم يكتب عنهم البتة، فقد يكون كُتب عنهم هنا أو هناك لكن ليس بالشكل اللائق بتجربة عميقة كتجربة السمحان مثلًا. وعلى أي حال فنحن الآن أمام نص مدهش لإبراهيم، أقول: مدهش لأنه ليس النص الذي يمثل تجربة إبراهيم الحقيقية، وأنا على يقين من ذلك، بيد أن المسألة لها منظور آخر لديّ، وهو الحالة الآنية التي نعيشها هذه الأيام بحلول شهر رمضان المبارك، ولهذه النقطة اعتباراتها الخاصة عند السمحان والمتعلقة بالنص ذاته سواء كانت المسألة تختص بكتابة النص أو بنشره، عمومًا وبشكل دائم النصوص المتعلقة بالمناجاة عادة ما تتسم بالبساطة والتقليدية لأسباب منها ما يتعلق بالشاعر ومنها ما يتعلق بالنص نفسه، ومن تلك الأسباب ما يلي:- أولًا: المشهد في هذه النصوص يتطلب حالة من الترجّي والاستجداء، وهذه الحالة يلزمها البوح الصادق والواضح أيضًا، لأنه لا يمكنك طلب شيء ما من إنسان (على سبيل المثال) إلا بوضوح كامل وجليّ «ولله المثل الأعلى»، وكيف يمكن له تقديم العونٍ لك وأنت لم تكن واضحًا معه في ماهيّة ما تطلب ؟! والطابع الطاغي على النص يفترض فيه أن يكون مصبوغًا بهيئة من الإلحاح، خصوصًا إذا ما تعلق الأمر بطلب إلهي، لأن الباري عز وجل يحب المُلِحَّ من عباده (كما في الأثر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم)..! وهنا الفارق بين سؤالك لعبدٍ من العباد وسؤالك لمولاك الذي خلقك، فالناس يملّون من إلحاح السائل لهم، وهذه النقطة تتقاطع فيها الطبيعة البشرية مع الموروث الديني / الإسلامي تحديدًا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف: «إن الله كره لكم ثلاثاُ وأحب لكم ثلاثاُ.. ( إلى أن قال: وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». إذن نحن أمام نص «صوفي» إن جاز التعبير، وإن كان البعض يمتعض من إطلاق بعض المفردات كالمصطلح الصوفي باعتباره منبوذًا لدينا هنا في المملكة السعودية، فهل كان السمحان في نصه هذا صوفيًا بالمعنى الآيل لمقتضى الكلمة أم لا؟ ثانيًا: يندر أن نقع على نص وجداني / إلهي كنص السمحان هذا وهو يتمتع بالصفة الحداثية العالية الجودة، لماذا؟ الجواب بكل بساطة أن من يكتب نصًا انكساريًا كنص السمحان هذا لا يمكن له أن يستحضر كل الأدوات المتعلقة بجر النص إلى خانة الحلم الشعري، ويبقى الهم الأوحد تقريبًا الحصول على المبتغي من هذا الاستجداء أو ذاك، وهو النتيجة المرجوة من طلب الشاعر. لكن السمحان في نصه هذا عمد إلى استثمار الفرصة السانحة له باعتبار المبادرة إلى قصب السبق فوفّق من حيث أخفق الآخرون. وعندما نستعرض بالمقارنة بعض النصوص التي كتبت في هذا الشأن كنص نايف صقر مع الفارق طبعًا في الصنعة الشعرية، النص الذي أخذ بعدًا انتشاريًا، لا أقول شعريًا وذلك أنه بلغ حتى حناجر المنشدين من أبناء الصحوة كأخينا الضحيّان ( شكر الله له ) نجد أن نايف صقر لم يقدم جديدًا بالمعنى الشعري المفترض وإنما كما كنا نقول مرارًا أنه يردد صوت جده الذي لا أعرف اسمه ..! أما السمحان في هذا النص فهو في حقيقة الشعر قد تناول الموضوع بشيء من الطرح الشعري المميز على الأقل فيما يختص بتصوير الشعور الجاثم على صدر الشاعر وبيان ثقله، وهناك أشياء أخر سنتناولها لا حقًا . وعلى أية حال فلغة النص تشعرك بأنك تقف أمام قامة شعرية راقية، واستخدام الدلالات فيه كافية لجعله من عيون الشعر العامي مؤخرًا إن لم يكن على الإطلاق فعلى أقل تقدير في مجاله. ومن أهم ما تقع عليه عينا الناظر للنص في مستهله المشهد الحركي للذات المقترفة للذنب، فبدء من السفر كرمز للخائف في قوله:- ياربي الليل وحشه والذنوب أوقفن قدام عين المسافر مع دروب السنين وحتى اشتعال جلد الضمير ونزف الجرح ثم النظرات التي تزيد من ركض الشاعر لأنها مرتبطة بالنظر إلى الوراء، وهنا نقف مع الشاعر قليلًا في مسالة لها ارتباط شديد بالإيحاءات التي تقف خلف اقتراف الذنب , والذنب عادة يحصل معه الندم على أساس من التذكّر، بمعنى أنه يمثّل حدثًا ماضويًا إذا ما قُدّر لنا تصنيفه، فكون الشاعر هنا يوظّف النظرة إلى الوراء هذا فيه مدعاة لكون ذلك مرتبط بالحدث الأصل / اقتراف الذنب، ثم هناك عوامل أخر هيأت الأرضية المناسبة للشاعر لرصد مثل هذه الصورة بالكيفية المشار إليه، ومن ذلك قوله:- الليل وحشه فتصوير الليل باعتبار وحشيته رافد مهم ومثري في تقرير حالة الشاعر على أساس من الهلع ومسارقة النظر إلى الوراء بشكل قلق. غير أن الشاعر حينما أراد تصوير المشهد الذي على أساسه انتابته حالة القلق سالفة الذكر ومن ثم زاد معدل الركض لديه واختلط لديه مفهومان ترتكز عليهما الحالة المشهدية، وهما الاشتعال ونزف الجرح، وحيث لا ارتباط بينهما فالاشتعال يلحق به تبعًا الحرق (مثلًا) في ذات الوقت الذي يلحق ب النزف (الطعن) وهذا يصور حالة القلق التي يعيشها الشاعر، مع أني كنت أود منه تحريك الكلمة (جلد) فلا أعلم هل هي (جَلْد) بفتح الجيم؟ أم (جِلْد) بكسرها؟ وعلى أية حال فلا اعتبار هام يترتب على ذلك. جلد الضمير إشتعل بي والجروح إنزفن نظرت خلفي وزاد الركض .. والركض وين ! ثم التصوير الدقيق في حالة الهرب من الله وإليه، يستند فيه الشارع إلى أرضية دينية نابعة من مبدأ الإيمان بالقضاء والقدر، هذا المبدأ يتعلق بنَفَس (من التنفس) البيئة التي يعايشها الشاعر إضافة إلى غلبة الشعور الطاغي بالذنب كما ذكرنا في المقدمة، وهذا المبدأ وارد في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال في معرض حديثه عن الطاعون الذي أصيب به جَمّ من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفر من قَدَر الله إلى قدر الله. المزيد من الصور :