الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: 1.فإن الإنسان عندما يقول أويفعل أويمتنع عن القول أوالفعل فإنه يحكم، أويكون سلوكه مبنيا على سبق حكمه، فمثلا عندما يقول عن الشيء إنه نافع أوضار، وعن الرأي إنه صواب أوخطأ، وعن الشخص إنه صالح أوغير صالح فإنه بذلك يحكم على الشيء أوعلى الرأي أوعلى الشخص بموجب قوله، أويؤسس سلوكه تجاه هذه الأمور على حكمه. ولما كان للحكم -بهذا المعنى- هذا الشأن الواسع المهم في حياة الإنسان فإن الإنسان يحتاج إلى منهج يضمن أن يكون حكمه أقرب للصواب، ولذا فلا غرابة أن يعنى الإسلام بتقرير هذا المنهج، وقد أدرك ذلك أسلافنا فأكثروا الكلام عن هذا المنهج ولا سيما المفسرون وشرّاح الحديث، وربما كان من أكثر الناس ترديدا للكلام عن هذا المنهج شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى أن كل ضلال في الدنيا نشأ عن الانحراف عن هذا المنهج أوعن الاخلال بأحد عناصره ومكوناته. بل لا غرابة أن يعطي القرآن الكريم مساحة واسعة تتجاوز ثلاثمائة موضع للكلام عن هذا المنهج بصفة مباشرة، إما لتقريره، أوبيان مظاهر الالتزام بعناصره، أومظاهر الإخلال بها أوبأحدها، أوبيان للاسباب المساعدة على مراعاة هذه العناصر، أوالأسباب المعوقة عن ذلك، ثم ما يترتب على الالتزام بها والاخلال بها من نتيجة وجزاء. وهذا ما اقتضى من الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي أن تضعه مادة في البرنامج الدراسي في معهد الحرم المكي وفرعه في المسجد النبوي. وكان ذلك بعد أن لاحظ القائمون على المعهد أن الإخلال بهذا المنهج مرض شائع، لا يبرأ منه طلبة العلم بل إنك لا تكاد تجد فرقا من حيث العناية بالمنهج بين طلبة العلم الشرعي والعوام من الناس. 1. ويتلخص هذا المنهج في أنه لكي يكون حكم الإنسان أقرب للصواب لا بد أن يتحقق له عنصران أساسيان: الأول: ما يعبر عنه أسلافنا بالعلم، بمعنى أن يكون الحكم مبنيا على إدراك حقيقة الأمر، لا على الظن أوالخرص، أوالرأي الشائع، أونقل غير الثقة في نقل الخبر، أوالتأثر بالشعارات أوالإشاعات. الثاني: ما يعبر عنه أسلافنا بالعدل، بمعنى عدم التحيز في الحكم، وإنما يكون الحكم بعد تحقيق العلم بما اقتضاه العلم، فلا يكون متأثرا بالهوى أوالعاطفة ولوكان هوى مبعثه طبيعة خيرة أوكانت العاطفة عاطفة نبيلة، فلا فرق في وجوب الحكم بمقتضى العلم بين القريب والبعيد، أوالصديق والعدو، أوالمسالم والمحارب، لا يختلف باختلاف الزمان والمكان أوالظروف الملابسة، وكما يعبر المفسر ابن كثير رحمه الله: “العدل مطلوب من كل أحد لكل أحد في كل حال"، ذكره عند تفسيره الآية الكريمة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) وكما يوضح القرآن فقد جاءت الآيات الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) بمعنى: “أن تتجاوزوا الحد بعدم العدل في معاملتهم"، وليس أعدى للإسلام ولا أبغض للمسلمين من قوم صدوهم عن المسجد الحرام وقاتلوهم، وأخرجوهم من ديارهم وهموا بقتل الرسول لولا أن الله عصمه منهم. ولا يضمن الإنسان -في كل وقت وتحت أي ظرف- أن يصل إلى الحقيقة أوأن يقوى على التخلي عن الهوى أوالعاطفة، إنما المطلوب من الإنسان أن يجتهد في تحقيق هذين الأمرين، ولقد ضرب لنا القرآن الأمثال بعدم تمكن الإنسان دائما من تحقيق العنصرين أوأحدهما، حتى الأنبياء، كما في خبر داوود، عند ذكر فتنته وبلائه، وما أوجب استغفاره وإنابته، ثم غفر الله له ذلك، فإذا طرحنا تنزيها للنبي ما يذهب اليه كثير من المفسرين من القصة الإسرائيلية قصة يوريا وزوجته، وأخذنا بالتفسير الأليق بالنبي عليه السلام وهوحكمه فور سماعه قول المدعي وقبل سماعه قول المدعى عليه، في هذه الحال فإن صلة القصة بتحقيق العنصر الأول وهوالعلم واضحة، وليس بعيدا ما قاله بعضهم من أن الدافع، في هذه الحالة، العاطفة النبيلة التي تكون لدى خيار الناس من الاندفاع لحماية الضعيف ونصرة المظلوم، ولهذه الملاحظة مغزاها في ما قُرِر بأن العاطفة الخيرة لا تسوغ عدم الحرص على تحقيق العنصر الثاني، أوكما في قصة نوح: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ)، وفي قصة إبراهيم (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، وفي قصة موسى مع شيخه، الذي أوتى رحمة من الله وعلم من لدنه علما، وفي أحوال أخرى قصها القرآن. ولا حاجة للإلحاح بالقول بأن ما ذكر عن الأنبياء عليهم السلام لا مجال لأن يُفهم منه المساس بذواتهم الشريفة، أوعدم قَدرِهم قَدرَهم الكريم، وإنما هوتأكيد بشريتهم التي عُني القرآن بتأكيدها في مواضع كثيرة، وقد أمر الله مصطفاه وخليله سيد ولد آدم أن يقول: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا)، و(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، كما لا يفهم منه نسبة الذنب إلى النبي. ومن ناحية أخرى، فلا يخشى مما ذكر يأس الإنسان من تحقيق هذين العنصرين، لأن المطلوب منه الاجتهاد، فإذا اجتهد ولم يمكنه تحقيق هذين العنصرين لقصوره البشري فلا يُلام ولا يُجَرَّم بل إن الحاكم إذا اجتهد وأخطأ يكون له أجر. 3.لعل القارئ تبين من قراءة الفقرة السابقة وما ورد فيها من الإشارة إلى الآيات الكريمات التي لها علاقة مباشرة بالمنهج، موضوع البحث، شيئا عن مدى المساحة الواسعة التي أعطاها القرآن لايضاح مضمون هذا المنهج. والحق أن الإنسان عندما يقرأ القرآن بتدبر سوف يلاحظ الكم الهائل من الآيات التي لها علاقة مباشرة بالموضوع. وشيخ الإسلام ابن تيمية في توضيحه لهذا المنهج كثيرا ما يكرر الاستدلال بالآيات الكريمة في سورة النجم، فيشير إلى أن الآية الكريمة (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أن الآية الكريمة في شطرها الأول تشير إلى انحراف الضالين عن العنصر الأول في المنهج وهوالعلم، فهم لا يرجعون إلى علم، وإنما يرجعون إلى الظن، (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)، وتشير في شطرها الثاني إلى إخلالهم بالعنصر الثاني وهوالوقوف عند موجب العلم وعدم التحيز، فهم يتبعون هوى النفس وما ترغبه. وفي المقابل تشير الآيات في السورة نفسها (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) إلى وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بصدوره في هدايته عن العلم، إذ نفي عنه الضلال والجهل بحقيقة الأمر، ثم نفى عنه الغي والقول عن الهوى، فأكد في الآية تحقيقه للعنصرين الأساسيين للمنهج. ومن الآيات الواضحة الدلالة في تقرير هذا المنهج قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) فقوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) يعني وجوب تحقيق العلم بالمحكوم به، وذلك يوجب اتخاذ الوسائل الموصلة لإدراك الحقيقة، وقوله: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) يعني وجوب عدم التحيز في الحكم والميل عن الحكم بما اقتضاه العلم بالمحكوم. ويتضح ذلك من معرفة العلة التي أوجبت عتاب داود عليه السلام، وهي ما أشرنا إليه سابقا، وإذا صح فإن الآية الكريمة تنبه إلى مظهر من مظاهر الإخلال بأحد العنصرين. وفي قوله سبحانه: (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) بيان نتيجة الانحراف عن العنصر الثاني وهوالضلال، وفي قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) بيان لجزاء مثل هذا الانحراف، ويفهم من (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، أن تذكر يوم الحساب سبب داعم لإرادة الإنسان الالتزام بالعنصر الثاني. ولوحاولنا تطبيق ما أشرنا إليه، وحاولنا أن نعرف الآيات الكريمة التي لها علاقة مباشرة بإيضاح مضمون المنهج، على ما شرحناه، لواجهنا ما يقنعنا منذ البداية بما أشرنا إليه عن المساحة الواسعة التي فصل فيها القرآن وكرر القول مما يُوضِح عن أهمية هذا المنهج. فلوبدأنا بسورة الفاتحة لَوَضَح لنا من الإشارة إلى صراط المغضوب عليهم مظهر من مظاهر الإخلال بالعنصر الثاني في المنهج وهوعدم سلوك أولئك الظالمين بمقتضى ما يوجبه ما لديهم من العلم، ولَوَضَح من الإشارة إلى صراط الضالين إخلال الظالمين الآخرين بالعنصر الأول حيث لم يتحققوا العلم بل بنوا سلوكهم على الجهل والانحراف عن الحقيقة. أما المنعم عليهم أصحاب الصراط المستقيم فهم الذين بنوا عملهم على العلم، والتزموا اتباع موجبه. فالأشقياء “الضالون" أخلوا بالعنصر الأول وهو: “الحكم عن علم، لا عن ظن وتخرص وجهل" والأشقياء “المغضوب عليهم" أخلوا بالعنصر الثاني وهو: “العدل أوالحكم بما يوجبه العلم". وتشير الآيات الكريمة إلى جزاء الأصناف الثلاثة الجزاء المتناسب مع التزامهم بمضمون المنهج أوانحرافهم عنه. وعندما ننتقل إلى سورة البقرة، نرى منذ البداية في الوصف الكريم للكتاب المقدس (لا رَيْبَ فِيهِ) علاقة مباشرة لهذا النص بالمنهج من وجهين: الأول: أن من شرط العلم موثوقية المصدر وظهور دلالته، أي بأن لا يتطرق الشك المؤثر في ثبوته أودلالته على المعنى المقصود. الثاني: أن ما جاء به الوحي فهوكاف لادراك الحقيقة والعلم فلا معنى لطلب دليل آخر، أوتطلب وسيلة أخرى للوصول إلى الحقيقة ومن ضعف العقل والإيمان أن يعارض بدليل آخر من رأي أوقياس أوما يجري على ألسنة الناس من تسمية ب"العقل" وهوفي حقيقته: “تصور إنسان، في زمان معين، وظروف بيئية معينة"، ولذا تتعدد التصورات، ويتضح هذا من قراءة الكتاب القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية المعنون (درء تعارض العقل والنقل) فالفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة وفي داخل هذه المذاهب نرى من يثير هذا الإشكال: “إذا تعارض العقل والنقل فهل يقدم العقل أم يقدم النقل"، فحقيقة الأمر أن ما يقصد بالعقل ليس العقل المطلق الذي يتفق عليه البشر وإنما يقصد به التصور الذهني لشخص ما في بيئة ما وظرف ما. وفي قوله سبحانه: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) بيان لوسيلة من وسائل الهداية لادراك الحقيقة وهي التقوى، كما قال تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ). وفي قوله سبحانه:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) علاقة مباشرة واضحة للآية الكريمة بالمنهج من وجوه متعددة بتعدد فهم الآية. فلفظ النص المقدس يحتمل ثلاثة معان: الأول: ما يذهب إليه أغلب المفسرين من أن المقصود أن المتقين يؤمنون بما ورد به الوحي من المغيبات مثل الأخبار عن الملائكة، وعن اليوم الآخر وأخبار السابقين. فيكفيهم للعلم أن الوحي جاء به فلا يطلبون دليلًا آخر (كالحس) من رؤية أولمس، فليسوا مثل الضالين الذين قالوا لنبيهم وقد جاءهم بالوحي (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً). الثاني: أن يكون معنى الآية مثل معنى الآية الأخرى (يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ) أي فليسوا مثل الضالين الذين أخبر الله عنهم (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ). الثالث: قريب من المعنى الأول، أي أنهم ليسوا ثخناء الجلود قلوبهم في غلف، يتملكهم الاستكبار العقلاني كما حدث للمعتزلة السابقين ومعتزلة هذا الزمان، الذي يرون في التسليم للوحي وللنص المقدس مذهب السفهاء والسذج (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). وعلاقة الآية الكريمة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بمضمون المنهج واضحة من حيث إنها تنبه إلى مظهر من مظاهر الإخلال بالعنصر الأول (العلم) وهوتعضية الدليل بمعنى الأخذ بشطر من الدليل ورفض شطره الآخر بدون موجب أوقبول الدليل ورفض دليل آخر مساوله في القوة، كما ورد في النصين الشريفين (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ). وأذكر أني قرأت لأحد المستشرقين اليهود (أحسبه من أعلم الناس بالإسلام وأكثرهم اطلاعًا على مؤلفات المسلمين) يعرض للحديث الشريف "حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة" فقال: إن محمدا قال:"حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء" ثم أضيف بعد ذلك: “وجعلت قرة عيني في الصلاة"، قال هذا ليقرر فرية أعداء الإسلام أن الإسلام دين يهتم بالجسد ولا شأن له بالروح، دين يهتم بالمادة ولا شأن له بالتسامي الروحي، قال هذا بدون أن يكون لديه أي دليل على أن الشطر الثاني أضيف من قبل المسلمين ولم يكن من قول الرسول، ولا مسوغ لهذا الزعم الظالم إذ إن جمع الإسلام بين العناية بالجسد والعناية بالروح ليس أمرًا غريبًا على الإسلام بل هوالسمة الغالبة على أحكامه وتعاليمه. وقوله تعالى (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هونتيجة الأخذ بالصفات السابقة التي وصف الله بها المتقين، ومنها اتباع صراط المنعم عليهم في الحكم وجزاؤهم عن هذا الاتباع. لعل التطبيق السابق كاف لإقناع القارئ بمدى عناية القرآن الكريم بمضمون المنهج (موضوع البحث) واتساع المساحة التي أعطاها القرآن له. 4.لقد ظهر اهتمام القائمين على معهد الحرم المكي الشريف بهذه المادة الجديدة في المنهج الدراسي في اختيار طريقة فريدة لتدريسه حيث بموجبها يقوم شيخ المادة بتجزئة القرآن أجزاء مناسبة كل جزء يضم عدة آيات وبعد أن يشرح لتلامذته المنهج يطلب منهم أن يقوم كل منهم خلال أيام الأسبوع الدراسي بدراسة الجزء الذي عينه لهم واستنباط ما يتصل مباشرة بالمنهج من الآيات الكريمة، ثم يستعرض معهم في آخر أيام الأسبوع استنباطاتهم ويصوبها، على أمل أنه خلال سنوات يكون قد أمكن مسح القرآن كله وبالتالي تكون قد تجمعت مادة هذا العلم، وأصبح في الإمكان تقييده وتأصيله وتفصيل مكوناته، ومنهجيته، ويرجى وراء ذلك حصول فوائد للطلبة إيجابية، ثانوية، منها: رسوخ هذا العلم في عقولهم بأمل تطبيقه في سلوكهم وحياتهم، ومنها التمرين على تدبر القرآن ومنها تعودهم التفكير المستقل، بدلًا من القناعة بالتلقين وتلقي الأفكار الجاهزة من الشيخ. والله الموفق والمستعان.