على الرغم من سنوات عمرها التي تخطت الثلاثة والثمانين، والتي عاصرت خلالها ملكاً وخمسة رؤساء جمهورية في مصر، لا تزال ريشة الفنانة نعيمة الشيشيني تتدفق بنبض الشباب، وخطوطها تتحدى الزمن، محتفظة بين ثناياها ببنية شابة فتية، تتدفق بروح الثورة وحماستها، وتشتعل بدلالات تعبيرية لا حدود لها. تحاول من خلالها قراءة واقع وطننا العربي الجديد بإرهاصاته المتعددة، وما بين ربيع الفن المتجدد وخريف رحلة فنية طويلة، وجوائز وتكريمات لا حصر لها، التقت الرسالة بنعيمة الشيشيني أيقونة المنهج التعبيري التجريدي، وأول من أدخله بالشرق الأوسط في معرضها الأخير (مختارات)، والذي افتتح بمركز الإبداع بالإسكندرية. ومزجت فيه الكتابات والآيات القرآنية من خلال التعبيرية التجريدية، فإلى تفاصيل الحوار: كيف بدأت رحلة نعيمة الشيشني؟ بدأت المشوار منذ عام 1964 واتجهت للتشكيل التجريدي والذي كنت أبحث من خلاله عن علاقات جديدة في الموتيفة والموروث الثقافي، وأسعى لتصوير حركة الكائنات، وعناصر الطبيعة، واستخلاص تشكيل جديد قادر على الإيحاء, وفي مرحلة أخرى انتقلت إلى التجريب في الفكر الصوفي الإسلامي، وفنون الشرق في القرون الوسطى؛ فأنجزت منها أعمالاً موحية من خلال دراسات هذا الفكر في مصر واسبانيا وتركيا، وكان المنبع الذي نهلت منه هو الفنون الشرقية التي درستها بعمق ما مكنني من تحقيق تجربة فكرية تشكيلية خاصة استلهمتها من التراث الإسلامي، وكان عنصر اللون والحركة جسراً للاتصال بين التصوير المعاصر والفن الإسلامي ورؤية الجمال المجرد شكلاً ومضمونا وهذا ما ميز ملامح اعمالي في تحاورها مع الاشكال الهندسية الصوفية حركة الكائنات حدثينا عن مرتكزات منهج الرؤية لدى نعيمة الشيشيني. يدور منهجي التشكيلي في السنوات الأولى من تجربتي الفنية في إطار تصور خاص مرتبط بحركة الكائنات والموجودات في الطبيعة، وقمت باستيعاب حركة الشكل على السطح المصمت في دائرة لونية تصبغ الأشكال والمنحنيات والخطوط الموحية لخلق عالم خاص لا توجد فيه خطوط مستقيمة، وهو التحام حقيقي بالحس الداخلي مع تصور جديد لشكل الطبيعة، وأطلقت على تلك المرحلة (الطبيعة المتحركة)؛ حيث شكلت هذه المرحلة بداياتي الأولى، وهي امتدت حتى نهاية السبعينات، ثم تحولت هذه الرؤية للفنون الإسلامية خاصة عندما سافرت لعدد من الدول وتأثرت كثيرا بفنونها. وماذا عن المرحلة التي اتجهت فيها بناظريك شطر فنون الشرق وكيف أثرت فيك؟ درست الفنون الشرقية في القرون الوسطي وتعمقت في دراسة الفنون الإسلامية خاصة، والذي كان بمثابة إطار إيجابي مكنني من تحقيق مدخلاً موضوعياً لتجربتي الفكرية التشكيلية مع المقارنة التراثية في الفن الإسلامي. حيث تطورت رؤيتي الفنية سريعاً في إطار الفكر الصوفي الإسلامي وفنون الشرق في القرون الوسطى والتي تشبعت بها من خلال دراساتي ومتابعتي لمنابع هذا الفكر في مصر وأسبانيا وتركيا، وهذه المرحلة من حياتي بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي وأسميتها (رحلة الشكل مع ثقافة الشرق)، ومن خلال تلك المرحلة بدأت استخدام الخطوط والكلمات والزخارف الإسلامية بإحساس تجريدي تعبيري، واعتمدت على المزاوجة بين تلك الخطوط وتكويناتها اللونية التي تسيطر على اللوحة. كيف بدأت علاقتك بالفنون الإسلامية؟ ارتبطت بالفن الإسلامي منذ عام 1976، بعد أن حفظت القرآن الكريم، من خلال بحثي الدائم عن (الكائن الحي ودوره في التصوير الإسلامي)، والذي مكثت من أجله ما يقرب من العامين في تركيا، وكان لهذه البعثة أثرها في إنتاجي بعد ذلك، حيث استدعيت إيحاءات الخطوط والكلمات والزخارف الإسلامية، ونسجتها في المنظر الطبيعي السكندري. العلاقة بالفن الإسلامي كيف تبلورت علاقتك بالفن الإسلامي وما هي حدود استفادتك منه اتخذت من تحليل منطق الحركة في الفن الإسلامي أساساً للعمل، وشكلت التعبيرية والأصول اللونية عاملاً قوياً في إكساب ملامح مميزة للوحاتي أشاد بها الجميع. اشتهرت بالتعبيرية التجريدية .. حدثينا عن هذا المذهب؟ كنت من أوائل من عمل في هذا الاتجاه في الشرق الأوسط، والتعبيرية التجريدية مذهب نشأ في الولاياتالمتحدة الأميركية خلال الخمسينات من القرن العشرين ثم انتشر في أوروبا. وهو يقوم على نظرية تقول بأن الألوان والخطوط والأشكال إذا ما استُخدمت بحريّة في تركيب غير رسمي، أقدرُ على التعبير وإبهاج البَصَر منها حين تُستخدم وفقاً للمفاهيم الرسمية أو حين تُستعمل لتمثيل الأشياء. من أبرز فناني هذا المذهب جاكسون بولوك. يرى الكثيرون في عناصرك التشكيلية تشابهاً مع الكتابات والآيات القرآنية.. حدثينا عن ذلك؟ تأثرت كثيراً بالفن الإسلامي وهو فن قائم على الحدس أو الإحساس الأول، ثم الإدراك، الذي يدخل منطقة العقل فيعطي أوامره لليد فتنتج ذلك الفن، وقد يرى البعض في أعمالي تشابها مع الكتابات والآيات القرآنية، ولفظ الجلالة، ولكني لا أقصد ذلك، حيث لا يكون لدي فكر مسبق عن شكل العمل الفني، وإنما يخرج من اللاوعي، فالفن بالنسبة لي احتياج أمارسه، وبالخبرة يتم تعديل الإسقاط الأولي مع الإفادة من الرواسب المخزنة في عقلي ومن كل مشاهداتي وأهمها الفن الإسلامي فتتغير أشكال العناصر التي تخرج على اللوحة بتلقائية شديدة. كيف يمثل العنصر والحركة واللون وسيلة اتصال بين التصوير المعاصر الذي تقدمينه، والفن الإسلامي الذي تعمقت في دراسته؟ الفن الإسلامي يشكل ميراثاً حضارياً مهماً في المجتمع المصري، وقد اهتممت كثيرا بالحشوات والمساحات ذات الأشكال الهندسية المتنوعة بما تتضمنه من خطوط عربية في المساجد والقباب والعقود، وأصوات الأذان، والزجاج الملون، والمنابر وزخارفها الخشبية, وقد اتخذت من تحليل منطق الحركة في الفن الإسلامي أساس يكسب العنصر التشكيلي منطقاً معاصراً للحركة عقبات في الطريق حدثينا عن العقبات التي واجهتك أثناء دراستك واجهتني مشكلة أن أغلب المعلقات المرسومة قد اندثرت، بعد أن تم جمع الأحاديث كلها منذ القرن التاسع الميلادي الثاني الهجري، وأن ذلك القرن شهد قمة المد العلمي والثقافي والأدبي في الفن الإسلامي، وانتهت فيه كل إشكاليات التصوير من المنظور بجميع أشكاله الهندسي والهوائي والفكري، وكذلك التشريح والكيماويات المستعملة في صناعة المواد الملونة. ومن خلال دراستي تأكدت من أن الفن الإسلامي كان يزيد ولا يلغي، وقد تحدثت في أحد الأبحاث عن تلك الإضافات، وعقدت مقارنة بين القرن ال 16 في الغرب وأعمال الفنانين مايكل انجلو ودافنشي اللذين يمثلان قمة فن عصر النهضة وكيف استلهما من الفن الإسلامي كشكل وليس كاعتقاد، وطبقت عليهم نظريات اللون وأسس التصميم والمنظور والتي أخذتها من خلال ما تركه الطبري والكندي، وأوضحت مدى استفادة الغربيين من النظريات العربية. من خلال هذه الدراسة العميقة ما هي نظرتك للفن الإسلامي؟ الإسلام لم يأت بفن وإنما بفكر، والفن الإسلامي يهتم بالجوهر وليس المظهر؛ والدليل على ذلك أن الفكر الإسلامي هو ما غلف الأشكال الفنية التي كانت مستتبة في البلدان التي فتحها المسلمون، وحافظوا على سماتها، فاتخذت تلك الأشكال أسلوباً مختلفاً تبعاً للمعتقد والفكر الإسلامي، الذي أساسه الوحدانية، وعدم التجسيم مشاركتك في الملتقيات التشكيلية الخارجية ماذا حققت منها؟ وما ذا أضافت لك؟ دُعيت للكثير من المحافل التشكيلية العربية والأجنبية و كلها زادتني خبرة وإطلاع على ثقافات الغير. كما أنني وضعت بعضا من بصماتي التشكيلية في كل معرض شاركت فيه، لوحاتي متواجدة في كل مكان ذكرته، ومن خلال تلك الرحلات ازداد عدد أصدقائي التشكيليين، وبتنا نتطلع لمزيد من العمل في لقاءات أخرى. الواقع العربي كيف ترى نعيمة الشيشيني الواقع التشكيلي العربي في واقع أصبح التغيير سمته أصبح للألوان مناخ مسكون بالحرارة والحرية، وفي المساحة التشكيلية كثافة عوالم داخلية، تُبقي عين المتلقي المتجولة فيها مستنفرة ومتوترة ومستفزة طوال الوقت، تحاول قراءة واقع وطننا العربي. وأجد الفنان العربي بدأ يقترب أكثر من إنسانيته، ويعبر أكثر عن قضايا مسكوت عنها، ويترك العنان لانفعالاته وأحاسيسه التي تشده إلى الواقع بعدما آثر الهروب كثيرا بين ثنايا لوحاته. في النهاية يبقى السؤال المعقد بتركيبه والبسيط بطرحه ما الذي نريد من الفن؟ نريد من الفن الكثير... فالفن يقدم معايير إنسانية وقيمية صرفة لأنه يتعامل مع الروح البشرية بشكل مباشر، وهو يترجم المشاعر والأحاسيس إلى لغة متعارف عليها، والفن يؤثر في وجدان الناس بأسرع ما يمكن، لما يحمله من رسالة عميقة ومسؤولية تجاه البشر، وبالنسبة لي فالرسم هو أقرب الفنون التي أستطيع من خلالها عزف أنشودة التراث المذابة بخليط لا تدركه فنون الأرض مجتمعة، لكن بعضاً منها قد أدركهُ بريشةٍ أطلق لها العنان فتتجلى عناصر الإبهار والعظمة في موجودات الطبيعة.