سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بين “واقعية" النظام الدولي و“واقعية" الثورة السورية هل يكون من الواقعية مثلاً القبول بهذه الدرجة من (النفاق) لدى نظامٍ عالمي أمضى قرابة عامين وهو (يتفرج) على مايجري في سوريا
كونوا واقعيين في نظرتكم إلى النظام العالمي أيها السوريون.. كونوا واقعيين تجاه المبادرات الدولية لحل (قضيتكم).. هكذا، يلحّ البعض على أن يكون السوريون أكثر (واقعيةً) في ثورتهم. حاول في هذه الأيام أن تكون (واقعياً) بينك وبين نفسك فيما يتعلق بهذه القضايا وانظر ماذا يحصل لك داخلياً! أكثر من هذا: حاول في هذه الأيام أن تدعو إلى (الواقعية) بين الناس وانظر ماذا يحصل لك. نقول هذا لأننا نعلم أن أكثر ما يمكن أن يقتل السوري هماً وغماً في هذه الأيام هو محاولته المستمرة لأن يكون ويظلّ واقعياً. ولأن ينطلق في تحليله وتفكيره وآرائه من مبدأ الواقعية السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها من أبواب الواقعية ومداخلها ومجالاتها العديدة. فأيُّ مأساةٍ تلك التي تجعل الناس تكفر بكل مايمتُّ إلى الواقعية بصلة؟ وأي مأزقٍ ذاك الذي يجعل مثل تلك الكلمة خاليةً أحياناً من أي مضمون؟ هل يعني هذا أن نكفر بالواقعية؟ لا وألف لا. فقد كنّا، وما زلنا، ندعو إلى أن تعود (الواقعية) لتصبح محوراً من محاور حياتنا الفكرية والعملية، على جميع المستويات، عامةً ومثقفين، أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين. وندعو لأن تصبح (الواقعية) مرتكزاً أساسياً للتحليل والفهم والقرار في جميع المجالات، وبشكل خاص في المجال السياسي. لكن هذا كله يجب أن يكون مبنياً على تحريرٍ صارمٍ لمعاني وشروط مصطلح (الواقعية) نفسه. لأن هذا وحده هو الذي سيخرجنا من ذلك المأزق النفسي والعملي الذي نجد أنفسنا فيه كسوريين عندما نحاول التعامل مع ذلك المصطلح، خاصة في مثل هذه الظروف الاستثنائية. إن الواقعية مصطلحٌ ينبعُ ابتداءً من الصّلة الوثيقة بالواقع، بكلّ مقوّماته وعناصره وأبعاده ومداخله. وأن تكون واقعياً يعني أولاً وقبل كل شيء أن تفهم الواقع. أي أن تفهمَ كل تلك المقومات والعناصر والأبعاد والمداخل التي تُكوّنهُ. ثم يعني أن (تستفرغ الوسع) في امتلاك (أقصى) الشروط التي تسمح لك بالتعامل مع ذلك الواقع. ثم يعني أخيراً أن تدرك (الحدود) التي لا يمكن لك تجاوزها، ولكن بعد أن تكون بذلت غاية ما تستطيع في فهم المداخل وفي إعداد وسائل استعمالها. بل إن من (الواقعية) أن تقف عند الحدود، ليس بسلبيةٍ بالغة واستسلامٍ مطلق، وإنما بتحفزٍ وانتباهٍ ويقظةٍ ومتابعة لكلّ متغيّر. لأن مثل تلك الحدود ليست صلدةً على الإطلاق، وإنما تتصف بكثيرٍ من المرونة والسيولة، بحيث يمكن لها أن تتغير وتتبدل على الدوام.. تلك هي باختصار (الواقعية) في أصغر معانيها التي يفهمها وينطلق منها في أفعاله ومخططاته كل من يحترم نفسه ويبحث عن الاحترام في هذا العالم. وتلك هي بعض مقتضياتها وشروطها التي لا يصعب على أحد أن يدركها ويتحرك بمقتضاها، حين يتوفّر الحدّ الأدنى من الجديّة والعزيمة والإرادة. وأهم مافي القضية ألا نحصر معاني الواقعية في التركيز على (الحدود) التي لايمكن تجاوزها، وفي الدعوة للوقوف عندها. وألا نختزل هذا المصطلح الهامّ والحسّاس في حياة الأمم والشعوب عند تلك النقطة، فهذا على وجه التحديد ما يخلق هذا المأزق الذي نتحدث عنه، عندما نحاول ممارسة (الواقعية) والدعوة إليها. خاصةً وأن كثيراً من الحدود إنما تكون حدوداً في أذهان أصحابها فقط، ولا تكون هي الحدود الحقيقية التي تنبع من استقراء سليم للواقع، أي أنها لا تنبع من (الواقعية). هل يكون من الواقعية مثلاً القبول بهذه الدرجة من (النفاق) لدى نظامٍ عالمي أمضى قرابة عامين وهو (يتفرج) على مايجري في سوريا. دع عنك الحكومات وحساباتها وابحث عمن يُفترض أن يكونوا إخوتك في الإنسانية. أين ذهبت مئات الأسماء العالمية من شرائح المثقفين والحقوقيين والفنانين التي ملأت سمع الناس وأبصارهم وهي تتحدث عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن دفاعها (المستميت) في سبيل حصول الشعوب على حريتها وحقها المشروع في محاربة الدكتاتورية وتحقيق الديمقراطية؟ أين اختفى السادة الحاصلون على جوائز نوبل وغيرها ممن كان الإعلام العالمي يحشر أسماءهم وإنجازاتهم وصورهم في حلوقنا وأمام أبصارنا على مدى سنوات؟ بل ربما يكون السؤال الأكبر: أين الإعلام العالمي (الحرّ) الذي يعتبر نفسه نصيراً لقضايا الإنسان في كل مكان؟ وهل يكون من الواقعية اختزالُ المبادرات السياسية المتعلقة بسوريا في نهاية المطاف بعبارة (الحلّ السياسي أو الجحيم)؟ مع الإيحاء بشكلٍ دائم من خلال التسريبات والإشاعات بأن الحلّ السياسي سيوظف بالضرورة في قتل طموحات الشعب السوري وعدم تحقيق أهداف الثورة. لماذا لايكون من الواقعية تزامنُ المسار السياسي مع المسار العسكري دون تناقضٍ بينهما، بل على العكس بكل تناغمٍ وانسجام وتوزيع أدوار، وعلى قاعدة (خُذ وطالِب)؟.. لقد قالها يعقوب عليه السلام لأبنائه وخلدها القرآن إلى يوم الدين: {يابَنيَّ ادخلوا من أبواب متفرقة}.. لو قبل السوريون نصائح الواقعية التي سمعوها منذ بداية ثورتهم لما كانت هناك ثورةٌ ولايحزنون. واليوم، قد يكفر الشعب السوري بالواقعية، لكن هذه الواقعية التي يكفر بها ليست سوى واقعية انهزاميةٍ كسولة لاتُدرك حجم الأوراق الموجودة بيد الثورة، ولاترى المداخل العديدة التي يمكن أن تخترقها للوصول إلى ماتريد. يكفر الشعب السوري بواقعيةٍ ترى في موقف النظام العالمي من ثورته أمراً طبيعياً لاتجب مراجعته على المستوى الحضاري. ويكفر بواقعية تُحاصره بمبادراتٍ سياسية ليس فيها إلا خياران هما أشبه ب (الكمّاشة)، في حين أن شيئاً من الإبداع السياسي يمكن أن يُضيف إليها خياراً ثالثاً ورابعاً وخامساً. لانعتقد أن أحداً يبحث عن الفوضى والصراع بشكلٍ عبثي في المنطقة، ولانشك أن حداً أدنى من الواقعية الحقيقية هو المطلب الأكبر للجميع. وإذا كان العالم يريد أن يساعد نفسه قبل أن يساعدنا كيلا نقع وإياه في فوضى الصراعات والأزمات.. فإنه مُطالبٌ بالتعاون معنا للوصول إلى واقعيةٍ جديدة تحقق الأمن والاستقرار، لكنها تضمن بشكلٍ مؤكد حقّ الشعب السوري في صناعة حاضره ومستقبله، وتعترف بقدرة ثورته على تحقيق أهدافها رغم كل التحديات. هذه هي الواقعية في سوريا الثورة اليوم، وأهلها واقعيون بهذا المنطق أكثر مما يتصور الكثيرون. [email protected]