تستوقفني جملة من المؤشرات والملاحظات حول الاحتفاء باللغة العربية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوم 18 ديسمبر 1973م، ليصبح هذا اليوم (18 ديسمبر) من كل عام يومًا للاحتفاء باللغة العربية. وأول هذه الوقفات تتجلى في المعركة الدبلوماسية الشرسة التي قادتها الدول العربية في الأممالمتحدة من أجل أن تجد اللغة العربية مكانها اللائق بها في الأممالمتحدة، إذ لم يكن كافيًا بالنسبة لها إجازة الترجمة التحريرية إلى اللغة العربية في حدود (4) آلاف صفحة فقط كل عام حسب منطوق القرار الصادر من الأممالمتحدة في 4 ديسمبر 1954م، إذ استمرت الجهود حتى وصلنا إلى جعلها لغة رسمية في العام 1973م.. وهو تاريخ بحسبان الزمن يأتي بعد (39) عامًا من تأسيس الأممالمتحدة، مما يعطي مؤشرًا واضحًا على أن الهيمنة السياسية لعبت دورًا كبيرًا في طمس هويات الشعوب (المستضعفة) آنذاك، وكانت اللغة بوصفها حامل الثقافة والمعبر عنه إحدى وسائل الحرب، وما زال الأمر كذلك حتى الآن، ولن أدخل في تفاصيل ذلك من نافذة «نظرية المؤامرة»، لتشابك القضية وتقاطعها من دوال كثيرة معقدة. أما الوقفة الثانية، فتأتي قارئة لما بعد هذا الإقرار والتضمين في جملة اللغات الرسمية في الأممالمتحدة، فالواقع يشير إلى أننا وقفنا عند تلك المحطة واعتبرناها «نصرًا» أثبتنا به حضورنا في الساحة العالمية، إذ لم تشهد اللغة العربية نموًا وتطورًا وإسهامًا في الحضارة الإنسانية الحديثة، وهو أمر لا تستجديه اللغة العربية، ولا تفقد معطياته، والشواهد على ذلك أبين وأوضح، ولا تحتاج إلى «سرد تاريخي» درجنا على استدعائه في بكائياتنا الكثيرة في معرض «نعي اللغة العربية»، وجلد الذات.. وقفزنا فوق عدد من الوقفات الأخرى وصولاً إلى الوقفة الأهم والتي نتساءل فيها عن كيفية معالجة وضع اللغة العربية اليوم، وتحصينها من غوائل ومناوشة التغريب، مع التأكيد على جعلها مفتوحة وقابلة للتعايش دون قوقعة أو ضمور.. هنا تكمن عبقرية الأصالة والمعاصرة، فمن المهم جدًّا أن يستثمر القائمون على اللغة العربية كل الوسائل والوسائط الحديثة في بسط هذا اللسان العربي المبين، لجذب أبناء «العربية» إلى لغتهم أولاً، فمن غير المقبول أن تجد الصغار في مدارسنا ضجرين من اللغة، ومتكاسلين عن معرفة قواعدها، وكلما نظرت إلى هذا الحال أدركت أن هناك خللاً ما في طريقة الإيصال، فما ضرنا لو غيّرنا هذه الطرق التقليدية التي تعتمد على معلم يقف على رؤوس الطلاب مفرغًا عليهم معلومات جافة يحشون بها رؤوسهم ويتعبون بها أنفسهم حفظًا ليكسبوا بها درجات في نهاية العام، وينتهي بهم الحال لاحقًا إلى نسيان ذلك كله ما دام الأمر محكومًا فقط بالنتيجة والترقي والوصول إلى الشهادات، لماذا لا نبتكر وسائل تجعل من حصة اللغة العربية أحب إلى أبنائنا، لماذا لا يدخل المسرح والدراما والموسيقى والتشكيل وكل الفنون الجاذبة إلى مدارسنا لتجعل من «العربية» لغة معايشة وحضور وليس لغة «رسميات» و»مكاتبات».. والحال نفسه ينسحب على حياتنا اليومية، التي تجعلك تحس أن اللغة العربية شيء يستدعى للرسميات، والشؤون المتعلقة بها أكثر من كونها لغة حياة ومعايشة.. ولضيق المساحة سأكتفي بهذا القدر، فلي وقفات أخرى مع واقع اللغة العربية في مجال العلوم والآداب، والمكتشفات الحديثة، ومسار الترجمة، وشبهة الصراع بينها وبين العامية.. غير أنه يلزمني في ختام هذه المقالة الإشارة إلى أن الاحتفال باللغة العربية في يومها العالمي وما ماثله من احتفالات عدة شهدتها بعض الأوساط الأكاديمية والثقافية في المملكة العربية السعودية وفي دول عربية أخرى يعد أمرًا مهمًا كونه يسهم في تكريس اللغة في حياتنا، خصوصًا أنها اللغة التي جاء بها القرآن الكريم، والوعاء الذي يحتضن حضارتنا وإبداعنا، ونحن إذ نحتفي جميعًا بهذه المناسبة الغالية على قلب كل مسلم وعربي، علينا أن نكون موضوعيين وصادقين مع أنفسنا في تقييمنا لوضع اللغة العربية في حياتنا العامة وإعادة قراءة ما تواجهه اللغة من تحديات عديدة في ظل ما يشهده العالم من ثورة اتصالية ومعرفية تحت تأثير سلطة الفضاء المفتوح ووسائل التقنية الفاعلة. كذلك علينا أن نؤمن بضرورة الانتقال إلى المبادرات العلمية، والعمل على تنمية المعرفة وتطوير الأبحاث المقترنة بحاجة العصر عبر الجهات التعليمية والجمعيات العلمية المنتشرة في المجتمع، ولا بد لنا أن نؤسس معاهد ومراكز متخصصة لدعم الأبحاث العلمية باللغة العربية وتعريب ما ينتجه العالم كل يوم، فالإثراء المعرفي أصبح قدرًا لا مناص منه، ولغتنا قادرة على النمو والازدهار في كافة أنحاء الكرة الأرضية متى ما كانت حاضنة لكل ضروب التقدم والتجديد. * كاتب وباحث أكاديمي