سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أنتم لا تحمون الأقليات في سوريا إن حداً أدنى من الواقعية في التحليل يُظهر أن هذا النوع من (الضغط) المتواصل هو الذي يمكن أن يصل بالمسألة إلى حدّ الانفجار
هذا النداء الصريح في عنوان المقال موجهٌ لطرفين: بعض الدول في النظام الإقليمي والعالمي، وبعض رموز المعارضة السورية. فمنذ عامٍ ونيّف، تخرق آذاننا (نصائح) حماية الأقليات وضرورة وجود (تمثيلٍ) واضحٍ لها في كل جسمٍ من أجسام المعارضة. يجري هذا في العلن كما يتكرر في اللقاءات والاجتماعات الخاصة،ويُسمع من السفراء إلى الرؤساء مروراً بالوزراء وبعض المثقفين والكُتّاب من كل حدبٍ وصوب. بل إن من ينظر إلى الصورة من الخارج سيعتقد أن كل مسؤولٍ صغيرٍ وكبير في السفارات ووزارات الخارجية ومكاتب الرئاسة وأجهزة الأمن من أستراليا إلى كندا، ومن روسيا إلى البرازيل، يقضي ليله قلِقاً على الأقليات في سوريا، مشغولاً بحاضرها ومستقبلها، ساهراً على حمايتها ورعايتها وضمان مصالحها.. ولولا أن المرء يعرف تاريخ بلده وواقعه الاجتماعي والثقافي لحسبَ أن الدنيا بأسرها مشغولةٌ بهذا الهمّ، اللهم إلا الشعب السوري نفسه، والأكثرية فيه على وجه التحديد! هكذا، عشنا مع هذا (الموّال) طيلة الأشهر الماضية. لم يشفع للشعب السوري ومعارضته شيءٌ في هذا المجال. فلا تاريخ التعايش ينفع، ولا المواثيق والعهود التي وقّع عليها الجميع تُفيد، ولا الإصرار على وجود التمثيل يُعطي نتيجة. وظلّ الأمرُ وكأن الشعب والمعارضة مُدانان إلى أن يثبت العكس. ولايعلم إلا الله ماهو أصلاً ذلك العكس وكيف يمكن إثباته. لكنّ الأمر بلغ في الآونة الأخيرة درجةً تُثير الريبة والقلق. فقد قالت العرب قديماً، إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلى ضدّه. خاصةً وأن الأقليات التي نتحدث عنها لم تعد تقتصر فقط على تلك الشرائح من المجتمع السوري ذات الخلفية الدينية أو المذهبية والعِرقية المختلفة عن خلفية الأكثرية، وإنما بات تعريفها يشملُ أيضاً بعض التوجهات السياسية التي يبدو أنها أُدخلت في هذا الإطار..والخطير أن بعض رموز المعارضة نفسها صارت تعيش هذا الهاجس إلى درجة أنه أصبح محور التفكير والممارسة السياسية في كل محفلٍ ومشروعٍ ومناسبة. قد يكون ممكناً الصبرُ على هذا الواقع العجيب لو أن مثل هذا الأمر يضمنُ فعلياً حماية الأقليات وتمثيلها العادل، فهذا مطلبٌ سوريٌ بامتياز وحاجةٌ وطنية استراتيجية قبل أن يكون اكتشافاً وصل إليه الآخرون. لكن حداً أدنى من الواقعية في التحليل يُظهر أن هذا النوع من (الضغط) المتواصل هو الذي يمكن أن يصل بالمسألة إلى حدّ الانفجار. فمن ناحية، تُظهر هذه الطريقة في التعامل مع الموضوع درجةً،كأنها مقصودة،من الإمعان في تجاهل ماتتعرض له الأكثرية،وتهدف إلى (فرك الملح في الجرح) كما يقول المثل الشامي.. فالإخراج الحالي يُجبر الناس إجباراً على المقارنة بين صمتٍ عالمي على قهر الأكثرية باسم الأقلية لعقود، يقابله إبداءُ حرصٍ على الأقليات، نعتقد أنه كاذبٌ ومزيف، وإن بدا ظاهرياً كبيراً وغير مسبوق. وهذه عمليةٌ تحمل في طياتها كماً مقدراً من خلط الأوراق وخلق الأجواء التي تدفع إلى الانفجار دفعاً، بينما يدّعي أصحابها أنهم يعملون لغير ذلك. ومن ناحية ثانية، هناك خطورةٌ كبيرة في الوضع الحالي، حيث تُوضع الأقليات في سوريا بهذه الطريقة في موقعٍ لاترضاه هي قبل أن يرضاه لها غيرها. فهذا الإخراج المُبتذل يُعطي أوراقاً لمن يريد أن يصطاد في الماء العكر، ليقول بأن هذه الأقليات تستنجد بالغرب والنظام الدولي، ولاتجد الحماية إلا من خلالهما. وأن الأقليات لاتثق بكل المعطيات والحقائق الحضارية الكامنة في التاريخ السوري، وأنها لاتثق بأن شعب سوريا قادرٌ على المحافظة على هذا التراث، وعلى أن يقوم بفرض إسقاطه المعاصر بعد انتصار الثورة ثقافياً وقانونياً ودستورياً وبكل طريقة ممكنة. هذا فخٌ يجب أن تفكر به كل الأطراف ذات العلاقة إذا كانت صادقةً فيما تدّعيه، والأقليات السورية أكبر وأوعى من أن تفكر بهذه الطريقة. وإذا كان ثمّة قلائل يُعدّون على أصابع اليد يمارسون عمليات التخويف من خلال اتصالاتهم مع بعض الدوائر الدولية.. فإن على هؤلاء أن يُدركوا حجم الإساءة التي يقومون بها تجاه سوريا وأهلهم فيها. ثمة معنىً آخر يكمن في مثل هذه الممارسة ويحتاج إلى تأملٍ عميق. فالموقف المذكور يوحي وكأن الأقليات في سورية لايمكن أن تعيش آمنةً مطمئنة إلا في ظلّ الديكتاتوريات وأنظمة القمع، وهذا يخالف الحقيقة إلى حدٍ كبير. فالحقيقة الصارخة توضح أن عدد مسيحيي سورية بدأ يتناقص مع تسلّم حزب البعث للسلطة. يذكرالباحث رضوان السيد أن أكثر من مليوني مسيحي هاجروا من سورية خلال العقود الخمسة الماضية، أي بدءاً من تاريخ انقلاب البعث. ويقول عبده سيف في كتابه (الطوائف المسيحية في سورية) أن «الوجود المسيحي أخذ يتطور خلال الحقبة العثمانية الممتدة على أربعة قرون بنسبة كبيرة. ففي عام 1517، كان المسيحيون 7% من مجموع عدد سكانها، وأصبحوا يشكلون في 1918 أكثر من 20%»!.. وفي هذا دلالاتٌ على طبيعة العلاقة بين الأكثرية والأقليات لايجوز القفز فوقها بتبسيطٍ واختزال. مرةً أخرى، لابأس من التذكير. لكن ثمة فارقاً كبيراً بين ذلك الأمر وبين ممارسةٍ تكاد تصل إلى درجة الوصاية القبيحة. نحن نتحدث ياسادة عن شعبٍ لايحتاج أن يعلّمه أحد دروس التعايش من الألف إلى الياء وكأنه طارىءٌ على هذا الموضوع! وإذا كانت بعض أطراف النظام الإقليمي والدولي تغفل عن الحقائق المذكورة أعلاه لسببٍ أو آخر، فإن من الخطير أن يقع ساسة المعارضة السورية في هذا الفخّ، وأن يكونوا سبباً لتفجير الأوضاع، فيصبحوا جزءاً من المشكلة في حين يعتقدون أنهم جزءٌ من الحلّ المنشود. [email protected]