فيما تعلق بتقصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم -من غير أن يتحراها- ورد أثران مشهوران: الأول: أثر عمر؛ فإنه لما رأى الناس يبتدرون مسجدًا يصلون فيه، يقولون: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله علي وسلم. وذلك في رجوعه من حجته، قال: "هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم؛ اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا!. من عرضت له منكم الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض". رواه سعيد بن منصور. وفي طبقات ابن سعد أنه أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي، لما رأى الناس يذهبون تحتها. الثاني: أثر ابن عمر؛ فالبخاري أخرج عن سالم أنه كان يتحرى أماكن في الطريق ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة، كما رواه نافع أيضا. ربما وقع في الخاطر ابتداء التعارض بينهما، فالأب ينهى ويقطع، والابن على الضد، والنهي وقع لحادثة واحدة في محل واحد، وأما ابن عمر فقد تتبع جميع مواضع الصلاة النبوية في الطريق إلى مكة؛ ليصلي هو أيضا فيها، والسؤال الذي يرد هنا: أين إنكار عمر على ابنه، أم لم يبلغه، أم فعله بعد وفاته ؟. أيّما كان الأمر، فأين إنكار من شهد نهي عمر، وهم طائفة أو أكثر، كيف وسالم ابنه ونافع مولاه ينقلان فعله ويرويانه على الناس، بما يدل على شيوع خبره ومعرفة الناس به، مع عدم النكير عليه؟. في مثل هذه العقد نلجأ إلى محاولة الجمع إن أمكن، أو الترجيح إن تعذر الجمع، باتباع أصول الترجيح كتقديم: إجماع الصحابة، وقول سوادهم وكبارهم، ثم قول الصحابي إذا لم يخالفه أحد مع شهرته. الإمام أحمد يرى التفريق بين اتخاذ المكان عيدًا، فهذا منهي عنه، وبين مجرد زيارته فهذا لا بأس به. بصورة أخرى: فرق بين الكثير منه واليسير، قال: "ما كان يفعله ابن عمر، يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فليس بذلك بأس؛ أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدًا وأكثروا فيه". ويميل ابن تيمية لهذا الجمع، فيقول: "هذا التفصيل فيه جمع بين الآثار وأقوال الصحابة". ولو فرض اطلاع عمر على حال ابنه عبدالله، فلربما كان هذا وجه سكوته. غير أن له رأيًا آخر بناه على تقديم التعارض، يقول فيه: "والصواب مع قول جمهور الصحابة.. وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة". أما المخالفة فنعم؛ خالفه أبوه وهو أعلم وأعلى، وأما الانفراد فمن وجه دون وجه؛ فكما لم يوافقه أحد من الصحابة بالفعل، كذلك لم ينقل خلافهم له بالقول، ومن المقطوع به عدم خفاء حاله، فهو في منزلة قول الصحابي الذي اشتهر ولم يخالفه أحد، إلا ما كان من عمر وقد تم توجيهه سابقًا، وسكوت البقية يدل على رجاحة هذا التوجيه، فيكون حكمه عندهم: إما أنه فعل مباحًا، أو لم يبلغ حد التحريم. العقدة في المسألة ظاهرة، وهذا ما حمل ابن تيمية على التردد بين الجمع والترجيح، فمن منع فمعه عمر وعزوف الصحابة عن صنيع ابن عمر، ومن أجاز فمعه ابن عمر وسالم ونافع وعزوف الصحابة عن الإنكار عليه، ولأجله توسط أحمد، وربما كان قوله عدلا في ظل عدم وجود نص يقطع الخلاف. khojah10@