عمد حكام المسلمين وولاة أمورهم في عصور التاريخ على خدمة المسجد النبوي وعمارته وعهدوه بالصيانة والترميم كلما اقتضى الأمر بسبب زيادة أعداد المسلمين المطردة وضيق المسجد عن استيعاب المصلين، أو تعرض المسجد النبوي أحيانًا لحوادث كالحرائق والصواعق. ويوضّح الدكتور عبدالرزاق بن حبيب الحمامي أستاذ التاريخ بالجامعة الإسلامية أن حكام المسلمين عبر التاريخ أولوا المسجد النبوي اهتمامًا خاصًّا، بتوسعات مستمرّة اقترنت كل منها باسم حاكم أو سلطان هدفه نفع المسلمين والاحتساب وخدمة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما له من حب متمكّن في النفوس.. وزاد الحمامي أن المصادر التاريخية على اختلافها لم تغفل عن تسجيل كل توسعة ونسبتها إلى صاحبها ووصف الأعمال التي أنجزت والمساحة الجديدة والتكلفة وما خصص لها من مواد البناء النفيسة. ولأن تعرّض المسجد النبوي أحيانًا لبعض الجوائح والحوادث مثل الحريق أو الصاعقة فإن أهل المدينة هبّوا لإنقاذه وضحى بعضهم بحياته في سبيل ذلك، ثم كان ولاة الأمر يسرعون في إعادة بنائه وإعماره وتشييد ما تهدم منه وإزالة آثار الحريق وغيرها، كما حدث في الحريق الأول والثاني للمسجد النبوي. ولا يكاد يخلو مصدر من مصادر تاريخ المدينةالمنورة من الحديث عن شخصية المسجد الفذّة، وما يدور حولها من إصلاح وتوسعة، اقترنت دائمًا باسم صاحبها، ولا تزال هذه العناية متواترة منذ القرن الأول الهجري إلى هذا العهد السعودي الذي يشهد كبرى توسعات المسجد النبوي على يد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله-، إذ تحكي للأجيال جهود رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وآلوا على أنفسهم خدمة المسجد النبوي وتوسعته باستمرار حتى يكون حاضنًا للمسلمين يتمتعون فيه بلحظات صفاء وعبادة خالصة، داعين لكلّ من وفر لهم هذه النّعم بوفير الصحة وسداد الرأي وحسن القبول عند الله. العصر العباسيّ كانت توسعة المسجد النبوي الشريف في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك على يد واليه على المدينة عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- سنة 91ه من أكبر التوسعات التي شهدها المسجد وأكثرها تغييرًا في شكل البناء والهندسة والزخارف، وظل المسجد النبوي على تلك التوسعة، لما يقارب سبعين سنة، إلى عهد الخليفة العباسي المهديّ بن أبي جعفر الذي زار المدينةالمنورة في الحج سنة 160ه ولمس ضيق المسجد بالمصلين، فأمر واليه على المدينة سنة 161ه بتوسعة المسجد، بعد أن درس أمر التوسعة وموضعها وأمر بشراء ما حول المسجد من المنازل والدور في الجهة الشمالية ليوسع به. زيادة المهدي اقتصرت توسعة المهدي للمسجد النبوي على الجهة الشمالية فقط، حيث زاد فيها بمقدار مائة ذراع أي 50 مترًا، فأصبح طول المسجد 300 ذراع وعرضه 180 ذراعًا، وقُدرت مساحة الزيادة ب 2450 مترًا مربعًا، واستخدمت الفسيفساء في تزيين أبوابه، وأعمدة الحديد في بناء أسطواناته، واستمرّ العمل في التوسعة أربع سنوات وانتهى سنة 165ه، ولم تظهر حاجة لتوسعة المسجد النبوي أو إعادة بنائه بعد هذه التوسعة حتى سنة 654ه حين شهد المسجد النبوي حريقًا كبيرًا أتلف بناءه. حريق المسجد النبوي شهد المسجد النبوي حريقًا في شهر رمضان من سنة 654ه أتى على جزء كبير من محتوياته وسقفه وبنائه.. ويروي المؤرخ السمهودي سبب الحريق مبيّنًا أن أحد خُدّام المسجد النبوي دخل مخزن المسجد في الجانب الغربي لاستخراج قناديل لمنائر المسجد، وترك المصباح الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل فاشتعلت فيه النار، وعجز عن إطفائها، ووصل الحريق لبعض البسط والمفارش، فهُرع أهل المدينة لإطفائها فعجزوا بعد ما وصلت النار إلى سقف المسجد، فأتت عليه جميعًا، وأكلت النار المنبر والأبواب والخزائن والمقاصير والصناديق. إعادة البناء سارع الخليفة العباسي في ذلك الوقت المستعصم بالله إلى الأمر بعمارة المسجد النبوي الشريف بعد الحريق، فأرسل الصُنّاع والآلات ومواد البناء، فبدأ العمل فيه سنة 655ه، ولم يكتمل البناء بسبب غزو التتار للدولة الإسلامية واستيلائهم على مقر الخلافة في بغداد، فتولى سلطان مصر وسلطان اليمن إتمام العمارة.. واقتصر العمل في هذه العمارة على إعادة بناء ما تضرر من المسجد وإصلاحه دون الزيادة فيه. حريق آخر بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد سنة 656ه، آل حكم المدينةالمنورة إلى ملوك مصر، الذين لم يزالوا يهتمّون بعمارة المسجد النبوي الشريف. وفي أواخر القرن التاسع الهجري، وتحديدًا في رمضان سنة 886ه اشتعل حريق في المسجد النبوي الشريف في الثلث الأخير من الليل، حين تراكم الغيم وحصل الرعد فوقعت صاعقة على هلال المنارة الرئيسية فسقط الهلال شرق المسجد وأحدث لهبًا وحريقًا، وهرب الناس من المسجد بعد أن عجزوا عن إخماد الحريق بالرغم من اجتماعهم وصعودهم لسقف المسجد في محاولات لإطفاء النار بالماء. ومات في هذه الحادثة أفراد منهم رئيس المؤذنين الذي أصابته الصاعقة حين كان يهلّل بالمنارة الرئيسية، وأتت النار على سقف المسجد وما فيه من خزائن الكتب والمصاحف إلا ما استطاعوا إنقاذه. عمارة السلطان قايتباي بعد هذا الحريق الهائل كتب أهل المدينة إلى الأشرف قايتباي سلطان مصر ليخبروه بحادثة الحريق، فأمر بإرسال المؤن والعمال والحرفيين وكل ما يحتاجه المسجد للإعمار والترميم.. وبدأ العمال في العمل فور وصولهم المدينةالمنورة سنة 888ه. وتلخّصت التغييرات التي أجراها الأشرف قايتباي على المسجد النبوي في هذه العمارة في توسعة المسجد من الناحية الشرقية قليلًا بمقدار ذراعين وربع ذراع، وبناء سقف واحد للمسجد ارتفاعه 11 مترًا بعد أن كان له سقفان من العمارة السابقة، وإصلاح وترميم المحراب النبوي، وتوسعة المحراب العثماني، فبلغت الزيادة ما يقدر بمائة وعشرين مترًا مربعًا. كما شهدت هذه العمارة بناء منارة رابعة للمسجد النبوي عند باب الرحمة خارج المسجد، وتجديد المآذن الثلاث الأخرى. عمارة السلطان عبدالمجيد بعد نهاية حكم المماليك لمصر سنة 923ه خضعت المدينةالمنورة لحكم العثمانيين، الذين قاموا بترميم المسجد النبوي وإصلاحه بين حين وآخر دون توسعة أو زيادة. وبقي المسجد النبوي الشريف على بناء الأشرف قايتباي الذي تم سنة 888ه واستمر على هذه العمارة 377 سنة، حتى ظهر بعض التصدّع في أجزاء المسجد وبلغ الخراب بعض سقوفه وأعمدته، ففي عام 1265ه كتب شيخ الحرم النبوي آنذاك إلى السلطان عبدالمجيد يبلغه بحاجة المسجد للإعمار. واهتم السلطان بالأمر فأرسل بعض كبار المسؤولين لتحديد حاجة المسجد، فأبلغوا السلطان بحاجة المسجد العاجلة إلى العمارة والتجديد، فأرسل بعثة من الخبراء والفنيين والعمال ومعهم ما يلزم من آلات وأموال. البدء بالمشروع الضخم وبدأ المشروع بالبحث عن الحجارة المناسبة لبناء المسجد، وبعد بحث في نواحي المدينة توصلوا إلى جبل قريب من ذي الحليفة تميل حجارته إلى اللون الأحمر، فأقاموا عنده معامل لنحت الحجارة والأساطين وصقلها.. وكان البناء في هذه التوسعة على مراحل، فكانوا يهدمون جزءًا ويبنونه تجنبًا لتعطل الصلاة في المسجد. روعة البناء وبنيت أسطوانات المسجد من الحجر الأحمر لسهولة نحته وجمال لونه، كما بنيت الجدران الأربعة بالحجر المنحوت الأسود الحراري لأنه أصلب من الأحمر، وجاءت بعض الأساطين على قطعة واحدة وبعضها على قطعتين. وبني على الأساطين عقود نصف دائرية تقوم عليها قباب بأحجام وتصاميم مختلفة، لكنها متشابهة، ووضعت في القباب نوافذ، وزيّنت بالزخارف، وكُلف الخطاط عبدالله زهدي أفندي بكتابة الآيات والأحاديث في القباب وجدار المسجد القبلي بخط جميل، واستغرق في كتابتها ثلاث سنوات. وفرشت أرض المسجد كلها بالرخام، وصقلت الأسطوانات ودهنت بلون يشبه لون الحجر، مع تذهيب رؤوسها، كما رخمت أسطوانات الروضة الشريفة بالرخام الأبيض والأحمر لتمييزها عن بقية المسجد. وخرجت العمارة المجيدية في صورة رائعة لم يشهدها المسجد النبوي قبل ذلك التاريخ، ولا يزال قسم من العمارة المجيدية قائمًا حتى اليوم بعد التوسعة السعودية، وبعد أن تبيّن أنها قوية ومتماسكة وقادرة على البقاء والاستمرار. وزادت العمارة المجيدية في المسجد النبوي من الشمال زيادة كبيرة، ومن الشرق زيادة يسيرة بعرض مترين ونصف عند المئذنة الرئيسية. ويقدّر مجموع هذه العمارة ب1293 مترًا مربعًا، واستغرق العمل في التوسعة المجيدية 13 سنة ولم يكتمل إلا سنة 1277ه، وبلغت تكلفتها سبعمائة ألف جنيه، وبلغ عدد العمال 350 عاملًا فضلًا عن الموظفين والمهندسين.