الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.. أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة في الخيرات والمنافسة فيها، فقال سبحانه في آيتين من كتابه: «فاستبقوا الخيرات»، وقال أيضًا: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا أيضًا فقال صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلاَّ أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوًا»، رواه البخاري ومسلم. فدلَّت هذه الآيات والأحاديث وما في معناها أن المسلم مأمور بالمسارعة والمسابقة والمنافسة في أعمال الخير والبر، ويقتضي مفهوم المخالفة أن التباطؤ والتأني والتأخر فيها مكروه، وتأكدت هذه النتيجة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التؤدة في كل شيء إلاَّ في عمل الآخرة»، رواه أبو داود والحاكم، وورد موقوفًا على سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والتؤدة هي التأني والتمهل. فاستنتج فقهاؤنا هذه القاعدة «الإيثار بالقرب مكروه» التي تعني أنه يستحب للمسلم أن يؤثر نفسه على غيره في أعمال الخير والبر، وأن لا يؤثر غيره على نفسه، وأن ميدان الأعمال الصالحة ليس ميدان إيثار، بل ميدان مسابقة ومنافسة. ومن الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة الأعمال الواردة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الأذان والصف الأول في الصلاة، فينبغي للمسلم أن يحرص على المنافسة فيهما، فلو اجتمع جماعة للصلاة فلا ينبغي أن يؤثر أحدهم غيره لأداء شعيرة الأذان، ولكن يبادر بأدائه، وإذا دخل اثنان للمسجد فلا ينبغي لأحدهما أن يؤثر الآخر بالمكان الأقرب إلى الإمام، بل يسبقه إليه. ومنها أيضًا ما لو اجتمعت جماعة للصلاة، ولم يكن عندهم من الماء ما يكفيهم كلهم للوضوء، فلا ينبغي أن يؤثر بعضهم بعضًا به، بل إذا أتيحت لأحدهم الفرصة ليتوضأ فليفعل بشرط عدم إلحاق الضرر، ولكن لو كان الماء ملكه، ولا يكفيه إلاّ هو، فلا يجوز له أن يعطيه غيره. ومنها ما لو قصرت نفقة الرجل عن إخراج زكاة الفطر عن أهل بيته جميعهم، فليبدأ بنفسه، ثم زوجته، ثم أولاده الصغار، ثم والديه، ثم أولاده الكبار على خلاف بين المذاهب في هذه الجزئية. ولهذه القاعدة وفقهها، والتخلّق بها دور كبير في المبادرة إلى أعمال الخير والبر والإغاثة، فإذا ما احتاج المسلمون في أي مكان إلى عون إخوانهم المسلمين، فليبادر إلى قضاء حاجتهم من يعتقد أن الإيثار بالقرب مكروه.