وتتدخل ثقافة هوفمان الإسلامية - أيضاً - بعد هذا التأمل لعموم المقبرة؛ ليبين حقيقة تعلَّمَها في الدِّين الجديد وعبّر عنها مما يشدني لقراءة مؤلفات ذوي الثقافات الأخرى: تأملاتهم التي تستدعيها خلفيتهم الثقافية المختلفة، بينما لا تخطر لكثيرٍ منّا على بال؛ والعكس صحيح، فكم سمعت وقرأت لهؤلاء إعجاباً بتأملات لعلمائنا وكتّابنا تستدعيها خلفيتنا الثقافية، بينما لا تخطر لكثيرٍ منهم على بال! والثقافة المقصودة هنا: الثقافة بكل مكوناتها، بما في ذلك الدين؛ فما سبق يتضح حتى لدى العرب من غير المسلمين؛ فلا زالت تأمّلات اليهودي العراقي د.أحمد سوسة رحمه الله -الذي كان اسمه قبل إسلامه: نسيم سوسه- للآيات القرآنية التي تصف اليهود، تتجلّى لدي عند المرور بها في القرآن الكريم ؛ بل أشار رحمه الله في كتابه:"في طريقي إلى الإسلام"، إلى أنَّ اليهودي يفهم من بعض الآيات المتعلقة باليهود فوق ما يفهمه غير اليهودي، وأنَّ ثمة عمقاً زائداً عن ظاهر الخطاب لا يدرك عمقه إلا يهوديّ يعرف بني قومه! وعوداً على بدءٍ؛ فإنَّ مما شدّني في كتاب: "الرحلة إلى الإسلام" للألماني مراد ويلفريد هوفمان، موضوع عنونه بسؤال: "كيف تتعامل مع الموت"؟ وتحدّث فيه عن مقبرة إسلامية ووصفها بأكبر مقبرة في الشرق، إن لم تكن أكبر مقبرة في العالم.. ثم وصف منظر القبور على امتداد النظر، بأنَّها: "كلّها مرتبة على نسق واحد، وهو الوضع الذي يسجّى فيه الميت على جانبه الأيمن، ووجه باتجاه القبلة إلى مكةالمكرمة؛ وعلى هذا فإنَّ هذا الترتيب المتوازي لهذه القبور ينقطع بالطبع خلال المنحدرات الطبيعية، وينتج عنه منظرٌ له نسقه الخاص ونقشه المتميز: وكأنَّ هناك مغناطيساً هائلاً يوجد في مكّة يجذب إليه، كل شيء بالطريقة ذاتها بتركيز شديد" . ثم يجري د.هوفمان مقارنة بين مقابر بني قومه وبين مقابر المسلمين، إذ يقول: "كما أنَّ هناك فارقاً نظرياً جوهرياً ثانياً بين هذه المقبرة الإسلامية، ومقبرة الكنيسة النصرانية: الغياب الكامل للتماثيل". وتتدخل ثقافة هوفمان الإسلامية - أيضاً - بعد هذا التأمل لعموم المقبرة؛ ليبين حقيقة تعلَّمَها في الدِّين الجديد وعبّر عنها بقوله : إنَّ " التباهي أو التفاخر بالحداد على الأموات، أو الندب والنوح المبالغ فيه والذي يخرج عن نطاق السيطرة، وشدّ الشعر، وتمزيق الملابس، ووضع الشواهد والأحجار على القبور لأي سبب من الأسباب، واعتبار الطبقات بشكل أبديّ لبعض أبناء الطبقات الراقية في المجتمع بعد الموت، كلّ هذه الأمور سلوكيات ليست من الإسلام في شيءٍ، ولا يُقرّها الإسلام بتاتاً" . وهنا يستدرك من واقع ثقافته الغربية، ليوضح ما قد ينتج من قراءة خاطئة لهذه الأحكام الإسلامية، إذْ يقول: " قد يتجرّأ بعض المراقبين الغربيين على تقديم تفسير مغلوطٍ لهذا الضبط السلوكي والانضباط البشري في حالة الحزن، على أنَّه انعدام العاطفة تجاه الميت! كما أنَّ الصبر الذي يرتسم وجوه المحزونين الملتاعين بفقد حبيب وعزيز وغالٍ، قد يختلط أمره على من يراه فيحسبه من قسوة القلب!" . ثم يعرّج على مثالٍ من الواقع يكشف بطلان هذا الفهم ذي الخلفية الثقافية غير الإسلامية، بقوله : " وكأنَّ دفن الملك المحبوب ابن سعود عام 1953م في قبر ليست عليه أي علامات الأبَّهة والعظَمة والفخامة أو التمييز في مقبرة لعامة الناس، كأنَّ ذلك تعبيرٌ عن عدم احترامٍ وتقدير وإعزاز لهذا الملك لدى السعوديين؛ لا، بكل تأكيد . إنَّ التفسير الصحيح لهذه الظواهر هو في منتهى البساطة : إن المسلمين الذين هدتهم عقيدتهم أن لا ينجرفوا في أي تيارٍ مخالفين عقيدة التوحيد؛ ولذا فقد أصبحت طبيعة ثانية لهم أن لا يجنحوا أو ينزلقوا إلى تقديس الأشخاص أصحاب البطولات من الأموات، إذ إنَّ هذا من الأمور السلبية التي لا يقرُّها الإسلام ولا يؤيدها على الإطلاق؛ وهم بهذا يريدون أن يؤكِّدوا أنَّه حتى عند موت العباقرة، والأنبياء، والصالحين والأولياء، فإنَّ هؤلاء لن يُشاركوا الله في عزّته وجلاله ومجده؛ فهو الحاكم الذي لا يحتاج إلى شركاء، وهو أغنى الشركاء عن الشرك" . وبحمد الله لا زال ولاة أمرنا يلتزمون بقبر من يموت منهم على سنّة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ فلا فرق بين قبر ملك ولا وزير ولا غني ولا فقير.. منذ الملك عبد العزيز وحتى اليوم؛ بل منذ اجتمعت كلمة الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمهم الله جميعا على نصرة هذا الدين، وتجديد ما اندرس من معالمه .. وأخيراً : ليت بعض المتباهين بالقبور من علية المسلمين دنيا، يدركون من صحيح العقيدة والشريعة، بعض ما أدركه هذا المثقّف الألماني الذي اختار الإسلام دينا.. وليت بعض مقابر المسلمين تخلوا من الأحياء، لتُفرّغ للأموات .. فمن المؤلم أن يعيش مليونا مسلم -ببلد إسلامي واحد- في المقابر وهم على قيد الحياة، وذلك في ظل أنظمة تحوّل قبورَ زعمائها إلى ما يشبه القصور ..