امتداداً لمقال الأسبوع الماضي: (استقلال القاضي أولاً)، ضمن سلسلة: (أخلاقيات القاضي)، وذلك في قراءة لوثيقة أخلاقيات وسلوك القاضي الصادرة من مؤتمر رؤساء أجهزة التفتيش القضائي في الدول العربية، وبعد الحديث في القاعدة الأولى عن استقلال القضاء والقضاة، ففي هذا المقال (الرابع) أعرض القاعدة الثانية التي تختص بالتجرد والحياد، لكون التجرد حالة ذهنية تعكس الصفاء النفسي لدى القاضي، ويكون بذلك مستعداً لممارسة وظيفته مجتنباً الأفكار المسبقة، وعبر التحليل المستقل قبل إتخاذ القرار، مترفعاً عن كل منفعة، ورافضاً أي مفاضلة بين المتقاضين، لأن القاضي كالأب الصالح والحَكم المتنزه. والحياد هو نوع من أنواع التجرد، وهو بالمساواة بين الناس في كل شؤونك سواء بقولك أو بفعلك وحتى وجهك ومجلسك، وذلك لئلا يطمع أحد في حيفك أو ييأس آخر من عدلك، فلا يليق بالقاضي الانتقائية في أحكامه، أو ترجيح هواه أو هوى المقربين أو النافذين أو الساعين أو المنتفعين أو المحازبين على الحق العادل. ويتجلى تطبيق مبدأ المساواة عندما يدرك القاضي بأن مجتمعه يضم أفراداً وجماعات يفرق بينهم الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو الجنسية أو العمر أو الجنس أو الحالة المدنية أو القدرات الجسدية والنفسية، أو منازع أخرى شتى كالتيارات الفكرية والجماعات الحركية والتكتلات الاحتسابية، فيجب عليه أن لا ينحاز لطرف أو يتحامل على طرف سواء عن طريق الكلام أو التصرف أو القرار، ويتجلى هذا كذلك في طريقة التعامل مع المحامين وأطراف النزاع والمعاونين للقاضي. ومما يعزز الثقة بالقاضي المبادرة التلقائية للتنحي عند توافر الأسباب كحصول الشك بأن ثمة تضارباً بين ممارسة وظيفته القضائية وبين مصلحته الخاصة أو مصلحة من يرتبط بهم بروابط القرابة أو الود أو الشراكة المادية أو الحسية أو المعنوية كالقبلية والمناطقية والفكرية والحزبية والشللية، وهناك فرق شاسع بين ضرورة التنحي عند توفر أسبابه وبين ضرورة مواجهة الحرج بالمبادرة المعاكسة إلى اتخاذ القرار العادل، كما لا يجوز التنحي حينما يكون لغرض الهروب من المسؤولية أو لتحقيق المصلحة الشخصية، أو سيكون سبباً في ضياع الحق أو عدم تحقيق العدالة كحالة صعوبة تشكيل محكمة أخرى، ولا يليق به الامتناع عن أي تعليق يتناول مسار المحاكمة ويوحي بأنه سيحرم أحد أطراف النزاع من نتيجة عادلة يتوخاها، ولا يعدّ حينئذ من تلقين الحجة وإنما من باب واجبه القضائي وأمانة العدالة. ومن أهم وسائل تعزيز الثقة بالقاضي أن يراقب نفسه سلوكياً، ويسعى جاهداً للظفر بثقة واحترام المتقاضين ووكلائهم والجمهور، لاسيما أن التشكيك بسلوك بعض القضاة يؤذي القضاء برمته ويزعزع الثقة فيه، ولذا من المعروف في المواثيق والقوانين والأعمال القضائية وجوب تنظيم المبادئ الأساسية للسلوك القضائي مما يكشف عن أن قاعدة التجرد قد حظيت بإجماع المعنيين في هذا الميدان، لأنها حجر الأساس في عمل القاضي، وصمام الأمان في الطريق إلى عدالة سوية، وشرط جوهري من شروط الاطمئنان إلى صحة مسار المؤسسة القضائية. والقاعدة الثالثة لأخلاقيات القاضي أن يلتزم بالنزاهة المادية والمعنوية، وهي الكلمة الأكثر تداولاً بين الناس لنعت القاضي المتميز بالاستقامة والأمانة والمناعة والشفافية، وبنظافة اليد التي لا يضللها إغراء مهما كان تبريره، وعليه أن يتصدى للإغراءات، وعلى الدولة أن تكفي القاضي في كل شؤونه الحياتية بحيث لا يحتاج للبحث عن ضرورات معيشته من مسكن ومركب وعلاج ونفقة كافية ولائقة به وأسرته، ولا يليق بدولة غنية أن تبخل على قضاتها فيما يحتاجونه، فلا يعقل أن يعيش القضاة في بيوت مستأجرة ولا يملكون شبراً من أراضي دولتهم الشاسعة، وأن يركبون سيارات لا تليق بمستواهم، وألا يصرف لهم بدل سكن ولا تأمين طبي وهم يعالجون أنفسهم وأولادهم ويعلمونهم على نفقتهم الخاصة في مشافي ومدارس أهلية تقضي على جل رواتبهم، خصوصاً مع أهمية عملهم وقلة عددهم حيث لا يزيدون عن ألفي قاضٍ في بلادنا من مجموع عشرين مليون مواطن، ومن غير العدل أن نطالبهم بالواجبات ونحن لا نكفيهم الحقوق، وهم يرون زملاءهم ممن عمل في المحاماة يعيشون في وفرة فارهة في حين أنهم يحرمون من ضروريات الحياة، مع التقدير لما يحظون به حالياً من رعاية واهتمام، ولكنهم يستحقون المزيد. ونكتفي اليوم بهذا القدر وسنكمل الحديث في الأسبوع المقبل بإذن الله عن القاعدة الرابعة لأخلاقيات القاضي في التزام التحفظ، والله الموفق ومن وراء القصد. [email protected]