عرفناه منذ القدم إنسانًا باحثًا، دوره يتمعن في هذا الكون وما وراء هذا الكون الفسيح والمليء بالمثير البصري، ليترك لنفسه العنان ينشد من خلال ذلك إلى المجهول وعوالم أخرى بصرية جديرة بالاهتمام فيختزلها في العقل الباطن، وحين يختلي بنفسه وأمام جسد اللوحة يعبر عن كل ما هو مهم قد استوقفه ولو للحظات بكل إحساس وصدق. ضياء عزيز الرائد في هذا المجال البصري والذي احتفى به كبار النقاد على المستوى العربي أو خارج الحدود، ارتبطنا به وبذاته التواقة للاكتشاف من خلال إنتاجه الفني وليس حديثه، فأعماله تحكي مشواره الفني الحافل بالعطاء والذي أصبح علامة بارزة في خارطة التشكيل السعودي فلا نبصره خلال العام إلا عندما ينتج عملًا فنيًا جديدًا أو مجسمًا جماليًا، وكأنه يحاورنا نحن بأن ميلاد الفنان وبزوغه مرتبط بما يقوم به من فعل فني، كثيرًا ما انتقد ضياء عزيز بأنه فنان تسجيلي للواقع المرئي، وهي في الحقيقة نظرة سطحية تفتقد إلى العمق والتروي، فالواقع يؤكد أن كل ما ينتجه ضياء يحمل في طياته فلسفة خاصة هو مؤمن بها ويحاول جاهدًا تأكيدها من خلال مشواره الفني. فالهدف ليس المحاكاة ونقل موقف نلمحه وإنما تعبير انطباعي من خلال العقل الباطن عن الشكل المادي الموجود في الطبيعة وما وراء هذا الشكل (الميتافيزيقي) ولو لمحنا لوحه (لعبة الكبت) والتي أنتجه عام 1995 لوجدنا مدى انغراق الفنان في إيصال الأجواء الدرامية للمشاهد والذي كان بالطبع على حساب موضوع اللوحة فنلاحظ ضربات الفرشة والانفعالات اللونية ودراسة التحولات والانعكاسات والانكسارات الضوئية والتلاعب في النسب والإضافة والحذف في معالم الوجوه والتي جعلتنا نعيش في محفل لوني بعيدًا كل البعد عن ما نبصره على أرض الواقع. حياة ضياء مليئة بالسفر والتنقل فمن السعودية إلى القاهرة إلى بيروت وأمريكا وأخيرًا إلى روما حيث يكمل دراسته الجامعية هناك، وفي كل مرحلة من تلك المسيرة تركت أثرًا في الذاكرة الخاص به ليكون منطلق يبحر من خلاله إلى عالم اللوحة، فصداقاته مع من يحب تركت أثرًا وارتباطه الوثيق بأسرته وزوجته رحمها الله ترك أثرًا، وسفره وترحاله بين منطقة وأخرى ترك أثرًا، ودراسته خارج الحدود واحتكاكه مع أبرز الفنانيين ترك أثرًا.. إذن هي مجموعة خبرات صقلت هذا المبدع ليفاجئنا بأعمال فنية عالية المستوى تزخر بالعديد من القيم الجمالية الناضجة والذكريات التي لا تنسى، لذلك لا نستغرب حين ننجذب لمنتجه الخلاق الموجود في قاعة أو شارع أو ميدان ذلك الانجذاب ينبع من الخصوصية التي أصبحت وما زالت سمة لهذا الفنان من تكوين وبناء وقوه لون وليس ذلك فقط بل أيضًا لنوعية الطرح والتي تجنح لثقافتنا العريقة وبيئتنا المحلية والعربية إضافة إلى عامل التفاعل لقضايانا المصيرية والتي نحن بأمس الحاجة إلى ملامستها والاستشعار بها في ظل الصراعات الموجودة. ولوحة (صبرا وشاتيلا) والتي أنتجت عام 1982 ولوحة (القبر) والتي أنتجت عام 1993 ولوحة (الشهيد العملاق) والتي أنتجت عام 1988 لهي شاهد على الانصهار مع قضايانا الجوهرية (كقضيه فلسطين) وكل قضية ترتبط بكرامة الإنسان ومشواره ضد العنف والقهر. درس ضياء أصول الفن والممارسة على يد أشهر أساتذه الفن في إيطاليا تعكس أعمال ضياء عزيز منذ بداية مشواره الفني البيئة المحلية بكل ما تحتوي من إرث اجتماعي وسلوكيات نشاهدها وأحيانًا لا نشاهدها لتلاشيها من ارض الواقع وتطور في الفكر والمعطيات، فيوثق تلك اللحضات بجمالها وبساطتها بأسلوب تفاعلى انطباعي عن ماذا كان هناك في الماضي البعيد وكيف كان أسلوب العيش والحياة، فيفصح بذلك عن ماضٍ سحيق لجيل جديد هم بحاجة إلى نوعية هذا المنتج للتربية الروحية وفرز اسلوب المقارنة وسط هذا الزخم من التطور. وعندما نشاهد برتريه للفنان ضياء عزيز فإننا لا نلمح ذلك الشخص أو تلك الشخصية وانما نلمح المؤثرات اللونية الساكنة في تلك الشخصية فيكون مفتاحا للتأمل والتمعن، إنه يغوص في الشخصية ليعبر عما وراء ذلك الإنسان من مأسٍ أو فرح أو هواجس تقلقه وكان ذلك جليا في لوحته البرتريه والذي رسم فيها (أباه) عزيز ضياء رائد الحركة الثقافية في عصره وقد اتضحت في معالم وجهه شيء من القلق والتوتر كانطباع اولي إثر معاناة التربية انذاك أو الترحال والسفر أو اهتمامات ادبية الخ انه تفاعل واضح مع معاناة والده وتعايش مع الحدث وإدراك للواقع الخافي وراء الأشياء، انه معيار للذة الحسية والتي أصبحت في مضمار منتجه (معيارا) جمالىا بحتا، وقد ساعد التباين بين الظل والنور على الإيحاء بالخصائص الدرامية الخاصة بالمشهد فأكسب ذات العمل (حيوية). مجسم الحلم من العلامات البارزة في تاريخ التشكيل السعودي كيف لا وهو يزخر بالعديد من القيم التشكيلية التي تحتم علينا نحن كمهتمين أن نتمعن فيه كثيرا وكثيرا للوصول إلى المتعة التي واكبه صنع هذا المجسم، انه عمل محكم البناء والتكوين ويمثل قضية الفنان المعهودة في اللوحة المسندة وهو التعمق في الشكل للوصول إلى ما وراء الطبيعة، فالمجسم يمثل الإنسان المجرد وشغفه المستمر للتحليق هذا الإنسان يحمل جناحي طائر يدفعه إلى السماء بشكل حالم للوصول إلى اهدافه المرجوة، نعم هي طبيعة الكائن الحي في الانطلاق باستمرار للوصول إلى قناعات تسعده غير أن تلك القناعات لا بد وأن تتلاشي مع الوقت فيعاود الانطلاق مرة اخرى وهكذا تستمر الحياة وهكذا هو ديدن الإنسان، استخدم ضياء عزيز الخردوات والحديد الخاصة بالطائرات والتي كانت مهدرة في وقتها فعاود تصنيعها وتحويرها وإعطائها قيمة فنية لتكون اساسا لهذا المنجز. لقد أثار هذا المجسم جدلا حينها بين المهتمين والمتذوقين من حيث البناء والنمحاز إلى التجريد لكن يظل الفنان الصادق صاحب الخيرة البصرية يكيف إمكانياته الخفية حين يستدعي ذلك، والكالعادة يترك ضياء في كل عمل فني يخصه بعض الملامح للواقع المرئي للمشاهد لتكون مفتاحا للتصور فهو يرفض التجريد الخالص الذي ينحو للعدم فترك الجناح والأرجل وجرد الجسم والهيئة، وحين ننشد لمكةالمكرمة وأجواءها الروحانية فإنه بالطبع سوف نتذكر (بوابة مكة) والذي يقوم تصميمه على فكرة الحامل الخشبي للمصحف الشريف وهو شكل معروف ومنتشر في المساجد والمدارس غير أن الصياغة هنا خرجت عن المألوف والاعتيادية في الطرح من خلال التبسيط والتحوير في هيكل هذا المبنى لإعطائه سمة جمالىة تتفق مع ثقافتنا الإسلامية بخطوط انسيابية تشعرنا بالحركة والديناميكية من الداخل بقواعد ضخمة ورصينة يعبر ضياء من خلالها عن الدين الاسلامي وثباته عبر الأزمنة والعصور، انه منجز يزخر بالعديد من السمات الفنية للفنون الإسلامية وما تزخر به من زخارف إسلامية مجردة تعبر عن الكون والحياة والإنسان والتوحيد، يتسلل داخل هذا المشاهد فيحدث نوع من الارتباط الروحي والعاطفي اتجاه هذا الدين فتزرع السكينة لكل شخص يعبر هذا الصرح متوجهة إلى بيت الله حيث الطمأنينة والسلام انها معانٍ سامية استطاع الفنان أن يختزلها في هذا المجسم ويعبر عنها بكل جرأة وثقة.