تعد الطباعة من مقومات الحضارة الإنسانية حيث لا يوجد مجتمع على وجه الأرض يعيش بدونها، ومن يجهل ذلك ما عليه إلا أن ينظر إلى ما حوله من الكتب والصحف والوثائق ونشرات الدعاية والإعلان والأدوات المكتبية والأواني الورقية بشتى أنواعها مثل: علب الأدوية وأطباق المأكولات السريعة ومستحضرات التجميل وتغليف البضايع إلخ.. ولهذا أصبحت الطباعة صناعة رئيسية تتسابق الدول على أسواقها وتطوير منتجاتها بكل وسائل المعرفة والإبداع التقني. وهي أيضًا سوق عمل واستثمارات رأسمالية تقدر حاليًا بستمائة مليار دولار وستصل مع نهاية العقد الحالي إلى ألف وخمسمائة مليار دولار تدر مردودًا عاليًا للدول المتفوقة في صناعتها. في ألمانيا بدأت حرفة الطباعة منذ خمسمائة سنة وأصبحت ذات سبق متميز في تلك الصناعة، حيث إن أول آلة طباعة صنعت في ألمانيا في القرن السابع الميلادي وأصبحت محط أنظار المهتمين ورواد ذلك الحقل. خلال الأسبوع الماضي حضرت لأول مرة معرض الطباعة العالمي Drupa الذي يعقد كل أربع سنوات في مدينة دوزل دورف بالألمانية وفي هذا العام كان عدد الدول المشاركة بمنتجاتها 52 دولة كانت مصر والإمارات الدولتان العربيتان الممثلتان في ذلك المعرض. ألمانيا لها قصب السبق في ميدان تقنية الطباعة وقد شاركت ب(638) عرضًا حيث تسيطر شركة هايدل برق على نسبة عالية من أسواق الطباعة عالميًا ولكنها في هذه المرحلة أصبحت محاطة بمنافسين جدد مثل: (زيروكس Xerox، ومينولتا Minolta، واتش بيHp ) التي ركزت على التقنية الرقمية (Digital printing) بميزات متقدمة -عالية الجودة- مستخدمة أحدث ما وصلت إليه التقنيات الرقمية التي تعد برفع مستوى الإنتاج من حيث الكم والكيف بنسب غير مسبوقة. المنتجات المعروضة تفتح أبواب فرص ثمينة للمتخصصين وتتيح لهم مشاهدة كل جديد في مجال الطباعة، والاطلاع عن قرب على التجارب وميزات المنتجات المعروضة لكي يتمكّنوا من التخطيط والتحديث المستقبلي بشكل مواكب للمستجدات ومتطلبات التنافس في الأسواق المحلية. ومن أبرز التطورات التي شهدها المعرض أن الهند والصين وكوريا الجنوبية متواجدة بمنتجات منافسة من حيث التقنية والأسعار ولاشك أنها ستضاعف من جهودها في الأعوام القادمة للحصول على حصص أكبر في الأسواق العالمية لمنتجاتها التي لا تقل جودة عن المنتجات الغربية في معظم الحالات كما أن لديها ميزة تنافسية في الأسعار بسبب قلة تكلفة الإنتاج مقارنة بمثيلاتها في أوروبا وأمريكا الشمالية. ويجمع المختصون الذين حضروا تلك العروض المذهلة في معرض Drupa 2012 بأن عالم الطباعة يشهد تحولات سريعة مماثلة لما حصل في أسواق الاتصالات والكمبيوتر التي غزت الأسواق العالمية بشكل سريع في القرن المنصرم وأصبحت من أكبر العوامل المؤثرة في تعاملات البشر بدون استثناء بسبب ثورة المعلومات التي تمكنت من النفوذ إلى كل طبقات المجتمع في كل مكان من العالم، والطباعة لا تختلف عن ذلك إلا في استخدام الورق كوسيط لنقل المعلومة وتخزينها واستخدامها والرجوع إليها عند الحاجة مثل: الكتاب والنشرات وغير ذلك من الوثائق النصية التي لا غنى عنها. والانطباع الذي استنتجته من حضور المعرض وما شاهدته من تقدم وتفوق تقني وتسابق أممي في هذا الميدان الذي لا غنى عنه هو أن عالمنا العربي بكل أسف سيظل لسنوات طويلة مجتمع استهلاكي بامتياز، كما أن التطورات التقنية تزيد من بعد المسافة بيننا وبين العالم الأول الذي نتطلع للحاق به. ولذلك فإنني أناشد المسؤولين عن المعاهد الفنية في المملكة التي تصرف عليها الدولة مبالغ طائلة في إعادة النظر في إستراتيجيتها وتحديث مناهجها والتركيز على صناعات المستقبل مثل الطباعة التي لها سوق كبير والمجال مفتوح لتوفير وظائف لأعداد كبيرة من المهندسين والفنيين السعوديين بدلاً من الاستمرار في الاعتماد الكلي على العمالة الوافدة مثلما هو الحال في الوقت الراهن. والمجال ملائم جدًا لتوظيف المرأة في مجال التصاميم والإنتاج المناسب لظروفهن حيث يمكن القيام ببعض المهام عن بعد بوسائل التقنية الحديثة، والتوفيق بين العمل والواجبات المنزلية في كثير من الحالات. والحالة ملحّة لإعادة النظر في متطلبات العمل بنظرة مستقبلية بدلاً من الارتهان للمفاهيم التقليدية لسوق العمل وفي تصوري أن المسؤولية تقع على عاتق وزارتي العمل والخدمة المدنية والجامعات والمعاهد الفنية.. لوضع إستراتيجية جديدة لفرص العمل وتوجهات التوظيف والتركيز على قطاعات الطباعة، والنقل والكهرباء، والتشييد والبناء.. في أسرع وقت ممكن. [email protected]