تعد مسألة (الإصلاح) وما يتصل بها من ألفاظ مقاربة ك(النهضة) و(التحديث) و(التقدم) و(التجديد) و(التطوير)؛ شعارات شديدة الإغراء في الطرح الفكري المعاصر لدى المثقفين والمفكرين بمختلف أنواعهم ومراتبهم، حتى أصبحت هذه المصطلحات، قوالب فكرية ترسم مسارات الترقي العقلي لديهم، بل تكاد تكون (مسطرة) معيارية لقياس القبول والرفض تجاه الأفكار الرائجة، ومما ساعد على ذلك ما يختص به عصرنا من سرعة التغيرات وتلاحق المستجدات، مما يجعل التركيز على قضايا (الإصلاح) ومشكلاته يأخذ مكانة متقدمة ومحورية في التفكير العام للمجتمع الثقافي، وهو ما نؤيده بكل قوة . محورية مسألة الإصلاح بل إن محورية مسألة(الإصلاح) أدت إلى تنوع الطرح الاصطلاحي وتعدد مجالاته من قبيل (إصلاح فكري)، (إصلاح ديني)، (إصلاح إداري)، (إصلاح اقتصادي)، (إصلاح سياسي)، (إصلاح اجتماعي) . إغواء و جاذبية وقد قرأت وشاركت واستمعت إلى كثير من النقاشات الدائرة حول تلك العناوين وما تحويه من مضامين، ووجدت في كثير من الطرح نزوعا إلى ضرب من (الرومانتيكية) الحالمة، فالمصطلحات جذابة ومشحونة بمعاني (التغيير) والنظرة إلى المستقبل بأمل وتفاؤل، ولكن تلك الشحنات العاطفية المندفعة بلا هوادة، لا تستند إلى واقعية في التفكير، بل هي أشبه بطرح المبشرين بعودة البطل الأسطوري أو انتظار البعض للمصلح المخلص من كل الشرور، وكأن فكرة الإصلاح أضحت هي الفكرة المخلصة عوضا عن البطل المخلص، في زمن يتوارى فيه دور القائد الفرد، وتحل محله الفكرة القائدة. جوانب القصور في الطرح الإصلاحي يكثر في الخطاب الإصلاحي (الاستشهاد) و(التمثيل) بحالات معاصرة أو في العصر الحديث، ولكن الملاحظ أن تلك الأمثلة الحاضرة دوما هي حالات (النجاح)، فاليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتركيا، أسماء تتكرر بكثرة في أفق المناقشات والمحاضرات على أنها نماذج استرشادية تؤكد على نجاح الإصلاحات، وهذا يمكن القبول به إجمالا لا تفصيلا، لأن مثل هذا الطرح تتغلغل فيه خصلة (الانبهار) وهي مخدرة للتفكير الواقعي الناقد.. وفي تقديري أن قصة الإصلاح في بعض تلك الدول هي في حالة (صيرورة) وتشكل ولم تكتمل التجربة بعد لحداثتها نسبيا، كما أن نجاح تلك الدول مر بمراحل نكوص وتعثر ليست بالقليلة فأين محلها في ثنايا الطرح المتوازن المتعقل؟! في كثير من الأحيان لا أجد من يتحدث عن صعوبات الإصلاح ومشكلاته وتعثراته في تلك الدول أو بعضها. فشل الإصلاح ليس من السداد في الرأي أن نركز على حالات النجاح ونهمل تجارب الفشل التي تعرضت لها بعض الدول التي أدت المشاريع الإصلاحية فيها إلى نكسات مؤلمة، فالإصلاح له شروطه وموانعه، فكما يجب أن ندرس حالات النجاح بلا انبهار يجب أن ندرس بعمق حالات الفشل بلا تشاؤم، وما لم تتعادل كفتا ميزان النظر الفكري تجاه مسألة الإصلاح بالجمع بين (حالات النجاح) و(حالات الفشل)، فإن هناك خللا واضحا في تعاطينا مع هذه القضية المحورية في حياتنا الثقافية والفكرية. ومن أمثلة ذلك من يناقشك في أن (التخصيص) هو مفتاح الإصلاح الاقتصادي في بلادنا، ويستشهد بحالات من النجاح لدول أور,بية قامت بعمليات التخصيص للقطاع العام، ويركز عليها، ويجعل الأمر محسوما، فتسأله: وماذا عن حالات فشل التخصيص في بعض بلاد أمريكا الجنوبية وبعض الدول الأفريقية والآسيوية، فلا تسمع ما يشهد أن الرجل درس حالات الفشل أو اهتم بمتابعات ذلك، فكيف ستثق بسلامة طرحه الطوباوي، إذا كانت الحالات السلبية غير داخلة في منظومة تفكيره. ومن ذلك في جانب (الإصلاح الديني) تجد بعض المفكرين ينطلق باندفاع في تأييد خطاب (الفكر التنويري)، فتسأله عن إخفاقات التنوير وغلوه وشططه في بعض البلاد العربية والإسلامية ومآلات خطابه التي لم تحدث إصلاحا دينيا متكاملا في الشعوب الإسلامية، فلا تسمع إلا الإنكار والمراوغات الحوارية والمغالطات الجدلية، فلماذا: يغضب ذلك الصديق إذا وجد شكوكا كثيرة تحف بطرحه؟ وكيف سيبرر تجاهله لمنطق واقع فكر التنوير الديني وما انتهى إليه؟ خلاصة إن الخطاب (الإصلاحي) سيكون محفوفا بمخاطر التحيز الفكري المندفع في تركيزه على الانبهار وتجاهله للانحدار، إن من يفكر بهذه الطريقة يكون كمن يدرس تفاصيل كيفية إقلاع الطائرة فقط، مهملا دراسة تفاصيل مرحلة الهبوط بل ويتجاهل في دراسته مشكلات حالات الطوارئ أثناء الطيران، فمن سيقلع مع هذا (الكابتن)؟! •أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود