عندما جرى هذا المثل الشعبي على ألسنة بعض المجتمعات العربية لم يكن لصوت الإنسان من قيمة سوى الصراخ و»الصوات» للتعبير عن حزن عميق أو لوعة كبرى. و»الصوات» المقصود في هذا المثل بالتحديد هو ذلك الندب والعويل الذي يعقب موت شخص ما، فبعد أن يسلم الروح يقوم المحيطون به بتغطية جسمانه، ثم يبدأوا في البكاء عليه، لذلك فإن المثل ينتهي دائمًا بحرف الجر على مضاف إليه ياء المتكلم، أي غطوني وصوتوا عليّ. لكن المقصود بهذا المثل هو استعارة حالة الموت والندب للتدليل على مواقف يصل فيها الأمر مداه ليصبح الأمل في تعديله أو إصلاحه مستحيلاً وكأنه وصل نهاية لا رجعة منها، وهي حالة موات لا حياة ترجى بعدها، وفي هذا السياق جاءت مقولة سعد زغلول الشهيرة لزوجته: «غطيني يا صفية ما فيش فايدة». وقد يرى البعض أن سعد قصد أن تغطيه صفية لينام، لكن الربط بين الغطاء وفقدان الأمل يحيل إلى المثل الشهير، فالوضع السياسي الذي حاول سعد زغلول استصلاحه أرهقه حتى وصل مرحلة اليأس، وهو يقرر هنا أن يرفع يده تمامًا من الأمر بعد أن أعياه، لذلك يكون الموت هنا موتان، أحدهما سابق للقائل وهو موت الوضع الميئوس منه، وموت لاحق لجهود الشخص الذي ظل يحاول ويحاول حتى فقد حماسه. يضرب المثل إذًا لكل من أراد أن يعلن نهاية أمر ما، فالأمر قد مات، ومحاولات الإنقاذ قد ماتت تبعًا لذلك، وطبيعي أن يتبع هذا الإعلان إجراءات الموت والتغطية من صراخ وعويل و»صوات». حين يصل المجتهد إلى نهاية الطريق ليجده مسدودًا، أو حين يكتشف أنه يدور في حلقات مفرغة لا تتقدم به إلى أي مكان، أو حين يبلغ الأمر منتهاه من العبث والهزلية البائسة، يغلق أبواب الأمل ويصرخ بفشل محاولاته الحثيثة وخيبة رجائه. «غطوني وصوتوا (عليّ)» هو بيان تملؤه المرارة لانعدام الجدوى، ولا يمكن أن يعقبه سوى إطلاق الصرخات، أصوات تعلو دون كلمات، زعيق يشق الصمت كاعتراض حزين. لكن حين هبت على شرقنا رياح الديموقراطية عرفنا أن لأصواتنا قيمة أخرى، فبعد أن كانت تعلن عن النهايات البائسة، أصبحت قادرة على إعلان البدايات المشرقة. لقد تعرفنا على مصدر آخر للفعل صوّتوا، فبدلاً من (صوّت صواتًا)، اكتشفنا (صوّت تصويتًا)، وبدأنا نُفعّل قيمة أصواتنا في مجالات مختلفة تتراوح من برامج تلفزيونية إلى حملات انتخابية لمجالس مدنية. فجأة تحول المعنى السابق ل»غطّوني وصوّتوا» ليغطي مساحات أخرى، وأصبح حرف الجر اللاحق لفعل التصويت هو اللام وليس على، فالانتخاب هو أن تمنح صوتك لشخص ما فيرتفع رصيده من الأصوات التي سترفع بالتالي من فرصه في الفوز. الممارسة الديموقراطية لا بد أن تبنى على ترسخ مفاهيم الديموقراطية وعلى إحساس الفرد بالمسؤولية تجاه تقرير المصير. لكن الذي يجري فعليًا في عمليات التصويت التي ننخرط فيها كعرب تجعلنا نتأمل في معاني التصويت والغطاء. لو توقفنا أمام برامج تلفزيونية تتغطى بغطاء ديموقراطي حيادي وتوهم المشاهدين أنها تقدر أذواقهم وتحترم آراءهم، لذلك تفتح لهم المجال لكي يختاروا ما يروق لهم، لاكتشفنا أنها إنما تفتح أرصدتها لجمع أموال المصوتين من خلال المكالمات الهاتفية التي يجرونها للتصويت ولا يهمها مطلقًا إن كان المصوت أمينًا أم غشاشًا، ولوجدنا أن لسان حالها يقول: غطّوني (بأموالكم) وصوّتوا (كما يحلو لكم). و(كما يحلو لكم) هذه تعني أن الإحساس بمسؤولية الفرد العربي إزاء الإدلاء بصوته موضع شك وريبة، وهذا ما أثبتته الأخبار التي تلت برنامج «آرب أيدول» الأخير، فقد كشف العديد من المصوتين أنهم قدموا الغطاء المادي اللازم للقناة الفضائية لتكسب الملايين من وراء تلك الأصوات الغشاشة. فذاك خليجي يصوّت ب(865) ألف دولار، وهذا سعودي يصوت ب(150) ألف ريال، وهذا عبدالله بالخير يفجر مفاجأة كبرى بعد اعترافه بالتصويت بمليون دولار. يكتشف العربي من خلال هذه البرامج أنه يستطيع أن يملك تعددية أصوات، وأن أمواله تمكنه من أن يصوّت ويصوّت ويصوّت بَعدْ.. فبدلاً من أن يعبر عن رأيه يمارس القمع بماله وذلك بمزاحمة آراء غيره التي لا تملك سوى صوتًا واحدًا نزيهًا، لذلك فهو يشتري الهواتف النقالة ويزودها ببطاقات شحن بلا حدود لينتصر على كل المصوتين أصحاب الصوت الواحد في منافسة غير شريفة، أما الفائزة في مسابقات من هذا النوع فلا يصح أن تظن أنها محبوبة العرب، لأن لقبها زائف ومحبيها من العرب لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة الذين غطوها بأموالهم وصوتوا لها مرارًا وتكرارًا، فيحق له أن تقول: غطّوني ( بأموالكم) وصوّتوا لي. والحال ليس بأفضل في التجارب الانتخابية الابتدائية عندنا مثلاً، فما حدث في انتخابات المجالس البلدية والأندية الأدبية شاهد على عدم النضج وعدم الإحساس بالمسؤولية، فالتكتلات التي يعتبرها الكثيرون أمرًا طبيعيًا لأنه لا فرار منها، هي في الحقيقة ممارسات قميئة وفاسدة لأنها لا تحترم القيمة الفعلية لصوت الفرد، بل تركن إلى المجاملات وبيع الضمير، فكم من صوت سلب الأحقية ممن هو أجدر ودفع إلى الفوز بمن هو أقل استحقاقًا، لمجرد أنه صديق أو قريب أو مالك مصلحة !! هنا يتحول معنى الغطاء إلى تغطية العيوب والضعف بالأصوات المنافقة والتي لا تعرف أن صوتها أمانة وعهد عند الله، وأن منحها لغير مستحقيها هو بمثابة شهادة الزور تمامًا: غطّوني (بنواقصي) وصوّتوا لي. وربما لا يترتب على عملية انتخاب محبوب العرب أو موهوب العرب أي ضرر يذكر، لكن عملية انتخاب شخص غير جدير لأداء عمل عام سيتبعه حتمًا كوارث ضخمة، وأهم تلك الأعمال هو نائب في مجلس الأمة أو رئيس لها. أول الطرق التي يلجأ إليها المنتخبون زورًا هو شراء الذمم بالمال، أو بالعصبيات، أو بالأيدولوجيات. كل المتدثرين بالأغطية المالية أو الدينية أو الانتمائية هم في واقع الأمر يستغلون المفهوم الديموقراطي ويستغفلون الناس للوصول إلى غاياتهم ومواقع القوة والسلطة ليستديروا ويقمعوا من منحوهم أصواتهم دون التحري والتحرك من واقع الشعور بثقل الأمانة. قبل أن يطلب المرشح من الناخبين أن يسدلوا على عدم جدارته الأغطية الخادعة، فهو قد تغطى بتحايله وألاعيبه وغطى أعينهم بوعوده الزائفة، حينها يصبح للمثل الشعبي جزء سابق: (أتغطّى فأغطّيكم)، غطّوني وصوّتوا لي. الغطاء والتصويت مترابطان لأن الانتخاب إجراء يعتمد على السرية التامة التي تضمن للفرد احترام قيمة صوته والتعبير الحر عن رأيه دون ضغوط وشهود، لذلك تغلق الصناديق وتطوى الأوراق وترخى الستائر. في تلك اللحظة التي يضع فيه المنتخب رأس قلمه على الورقة يتحتم عليه أن يعرف أن الرقيب الوحيد الذي لا تقف دونه أشد الأغطية كثافة هو الله عز وجل وأنه سيشهد تزويره وزور شهادته. الانتخاب ليس دائمًا وسيلة للتنفيس عن الحماس والتحزب أو للتعبير عن الإعجاب المحض، بل هو في جوهره تفويض للغير للقيام بعمل غاية في الأهمية نيابة عنا، وهنا يدرك صاحب الصوت أن منحه لغير المستحق عمل سلبي مسيء له شخصيًا قبل غيره، إذ سيتحول هذا التفويض إلى تقويض ودمار وموت يستدعي التغطية بالأكفان ورفع الأصوات بالندب، أصوات بلا كلمات، فلا تعبير سيكون متاحًا بعد خراب بصرة.