إن الشعور بالرغبة في العدل كان قائماً في النفس البشرية منذ أقدم عصور التاريخ، فروح العدل مستمدة من غريزة الاجتماع ذاتها، فالاجتماع يفسد حين غيابه، ولهذا كان العدل أساس أي صرح اجتماعي ومحوره وغايته، فالعدل قيمة لا تنطوي على مجرد عدم إيقاع الضرر بالغير، وإعطاء كل ما هو له فحسب، وإنما هي شيء أعمق من ذلك وأكبر، هي تحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة بغية كفالة نظام مأمول لسكينة المجتمع الإنساني وسلامته، وسعياً به صوب الاستقرار ومن ثم التقدم، ولعل العدل في الفكر الدستوري إنما يعني ضمان الحقوق المشتملة على المساواة التامة في استحقاق الحريات الأساسية، وفي القانون إنما يعني به أن يسود حكم القانون الذي يتساوى الناس أمامه جميعاً، والذي يشتمل على معايير ثابتة للعدل، إذا تحققت لم يشكوا الناس من الظلم قط، حتى أن الفلاسفة القدامى تصوروا أن قواعد العدل ثابتة ومطلقة وقائمة قبل وجود هذا العالم، بمعنى أن قواعد العدل موجودة في عالم آخر يمثل الخير والحق والمثل والأخلاق والقيم، وأن دور العقل السليم هو اكتشاف هذه القواعد، وكانت أعظم القواعد المنظمة لحياة البشر على هذه الأرض هي قاعدة العدل، والعدل في أصل معناه اللغوي يعني المساواة والإنصاف، وأبسط مفهوم له هو أن يعطى كل ذي حق حقه، وهو مجموعة القواعد التي يكشف عنها العقل ويوحي بها الضمير، ويرشد إليها النظر الصائب لتحقيق المساواة بين الناس، وإذا كان مثلث الكرامة الإنسانية يشتمل على الحق والمساواة والحرية، فإن الثلاثة إنما هي نتاج العدل، فالبشرية كلها أجمعت ألا حياة آمنة مستقرة، تحقق للبشرية طموحاتها دون توفر هذه القيمة المسماة «العدل»، ولهذا نشأت الدساتير والقوانين، وفي الإسلام العدل هو القيمة الكبرى، التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزلت معهم الكتب ليحكم بين الناس بالقسط، ألبس ربنا عز وجل يقول: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره بالغيب إن الله قوي عزيز)، فغاية رسالات الله إلى البشر، التي يبلغهم بها الرسل ومعهم المعجزات الدالة على صدقهم إنما هي العدل، وخير من يحكم به رسل الله المعصومون من الخطأ والظلم، ثم الأمثل فالأمثل من بني البشر، ولذا جعل الله الظلم محرماً عليه، فقد جاء في الحديث القدسي، الذي يرويه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه حيث يقول: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم... إلى قوله: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وبعد هذا البيان البليغ لما يجب أن يكون بين العباد وربهم، فالويل لمن لم يعدل وظلم – فللظالمين أشد العقوبة في الدنيا والآخرة، ولهذا كانت شريعة الإسلام أعظم شرائع العدل، لمن استوعب أوامرها ونواهيها، مقاصدها وقواعدها، ففي خطبة الوداع يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فأشهد).. ثم عرض من صنوف العدل ما شاء الله له أن يعرض، فأمر بأداء الأمانة، ووضع ربا الجاهلية ودمائها، وحذر من الشيطان وأمر أن توفى النساء حقوقهن وأوصى بهن خيراً، وحرم أكل الناس بالباطل وحذر أشد التحذير من ذلك، وأمر الناس بالعدل في قسمة الميراث، فالعدل أهم قيم الإسلام، وما غاب قط إلا وشاع في المسلمين الضعف حتى أهدرت دمائهم وضاعت أموالهم واعتدى على أعراضهم، فالعدل العدل أيها الناس فما هو سوى الحياة الآمنة التي توصلنا إلى آخرة كلها أمن وأمان ورضوان، ولعلنا فاعلين، فهو ما أرجو والله ولي التوفيق.