لا يختلف اثنان على القيمة الفنِّيَّة لشعر الشَّاعر أسامة بن منقذ الكناني (ت584ه) الذي حقَّق ديوانه د.أحمد أحمد بدوي، وتوافر على دراسته عدد من الدِّرسين. ليس هذا مدار حديثي، بل هو ما اتَّصف به أسامة من شخصيَّة متميِّزة ومقدرة فريدة في خوض غمار الأحداث، فقد عاش بداية حياته في ظلِّ الإمارة، حيث توارث أفراد أسرته الحكم في مدينة "شيزر" وكان أسامة الفارس المهيَّأ للحكم، ولكن عمَّه سلطان أدرك خطورته وفروسيَّته فنحَّاه عن الإمارة، بل طرده هو وإخوته من البلدة، وبعد خروجه حدثت الفاجعة، فقد رجفت الزَّلازل بمدينة شيزر، وأحالتها إلى ركام من الحجارة والتُّراب، وذهب ملك آل منقذ في طرفة عين. قال العلَّامة أحمد محمد شاكر عن خروج أسامة وإخوته: "وكان ذلك من فضل الله عليهم، فقد نجوا من القتل تحت أنقاض الحصن". لقد كان المكوِّن الشِّعري عند أسامة بعد هذه الحادثة يجمع بين ألم الغربة والوحدة، وألم الفقد والفاجعة، حيث فجَّرت تلك الحادثة في نفسه كوامن الأسى، وفاضت قريحته بقصائد مؤثِّرة تعدُّ فريدةً في باب رثاء الدِّيار والمنازل، ومن ذلك لاميّته المؤثِّرة التي يقول مطلعها: حيِّا ربوعك من ربىً ومنازلِ ساري الغمام بكل هامٍ هاملِ وسقتكِ يا دَارَ الهوى بعد النَّوى وطفاءُ تسفح بالهتون الهاطلِ أبكيكِ؟ أم أبكي زماني فيك ؟ أم أهليك؟ أم شرخ الشَّباب الراحلِ ما قَدْرُ دَمْعِيَ أن يُقَسِّمه الهوى والوَجْدُ بين أحبَّةٍ ومنازلِ ويمعن أُسامة في رسم لوحته التَّصويريَّة الحزينة حين يذكر ما حلَّ بأهله الذين اغتالتهم الخطوب، وفاجأتهم الكوارث والزَّلازل فأضحوا خبرًا بعد عيان، ودرست منازلهم، وزال ملكهم، وخلف ذلك كله أثره في نفس الشَّاعر، فقال: ذهبوا ذهابَ الأمس ما من مُخبرٍ عنهم، وزَالُوا كالظَّلال الزَّائل وبقيتُ بَعْدَهُمُ حَلِيفَ كآبة مستورةٍ بتحمُّلٍ وتحامُلِ سَعِدُوا بِرَاحَتِهم، وهَا أَنَا بَعْدَهُم في شِقْوَةِ تُضْنِي، وهَمٍّ دَاخلِ لقد ألَّف أُسامة في هذه الذِّكرى الحزينة كتابه: "المنازل والديار" وهو يحكي صورًا متعدِّدة ترسم ملامح بلدته الحبيبة وذكرياته فيها، وكيف خرج منها مكلومًا حزينًا، وعاد يذكرها بعد الحادثة بكل أسى، ولكنَّه يحمل تلك النَّفس الكبيرة التي لا تحمل الحقد، لأنَّها عرفت الحبَّ الصَّادق، واعتادت السَّير إلى العلياء، حيث يؤكد أنَّه رغم كل ما لاقاه من إخوانه وبني عمومته وأقاربه من شنآن وجفاء، وإقصاء عن منازله ودياره، إلَّا أنه يحمل لهم مشاعرَ طيبةً، وروحًا صافيةً، يقول عن تلك المشاعر النَّبيلة: بَنُو أبي، وبنُو عمِّي دَمِي دَمُهُم وإن أَرَوْني مُنَاواةً وَشَنْآنَا كَانُوا جَنَاحي فَحَصَّتْهُ الخطوب، وإخْ وَاني، فلم تُبْقِ لي الأيَّامُ إخْوَانَا فَكَيْفَ بالصَّبْرِ لي عَنْهُم، وقد نِظَمُوا دَمْعِي عَلَى فَقْدِهم دُرًّا ومرجانَا لقد خلَّفت ذكرى "شيزر" صورًا مضيئةً، وتراثًا فريدًا في نتاج أسامة، وأبانت عن روح شاعريَّة رقراقة تهفو إلى المجد، وتترفَّع عن السَّفاسف، والتَّوافه، والصِّراعات البغيضة. * الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية