منطق الحياة قائم على التدافع، فالأمم والمجتمعات تتدافع ثقافيا واقتصاديا، وكثيرًا ما يفقد منطق التدافع هذا صوابه فتقوم الحروب وتقع الكوارث انتصارًا لفكرة أو رغبة في فرضها على الناس. والأفكار تنمو وتشكل قوة دفع بحسب أصالتها أو فعاليتها وعصبية أنصارها، ولكن كل فكرة بشرية تحمل بذرة فنائها في داخلها، وحين تكتمل شروط السنة الكونية تسقط الفكرة أو تمرض أو تموت، ليحل محلها فكرة أخرى وهكذا يمضي قانون التدافع الذي لا يجامل أحدا أبدًا. ومجتمعنا العربي كغيره من المجتمعات يخضع لهذا القانون الذي لا يتخلف، فلدينا أفكار تتدافع وأصحاب أفكار يتنافسون على استقطاب الناس لهذه الأفكار. إن المتأمل يجد أن هناك فكرتين مركزيتين تحركان هذا التدافع في مجتمعنا هما : التدين والنهوض الحضاري، وكل ما يجري من حروب أهلية في مجتمعنا يؤول إلى هاتين الفكرتين، فهناك من يرى أن النهوض الحضاري يجب أن يخضع لمنطق التدين، فكل ما خرج عن هذا المنطق فهو مرفوض، وغير صالح للتداول. وهناك من يرى أن النهوض الحضاري لا يجب ربطه بفكرة التدين، لأن هذا يعني إقحام الدين في كل ممارسة، واختصار العالم في حبة فاصوليا كما يقال. وبناء على هذا صار لكل فكرة أنصارها وخصومها. وأصبح أنصار فكرة التدين يرون أصحاب فكرة النهوض الحضاري سببا لانحراف المجتمع واستحقاقه للعقوبة من الله. وربط أصحاب فكرة النهوض الحضاري تخلف المجتمع بالمغالاة في فكرة التدين، و شيوع ثقافة الوهم لذي كثير من المتدينين. إن التدين والنهوض الحضاري لا خلاف بينهما، فالإسلام هو دين الحضارة والرقيّ، ولكن منهج النظر هو الذي خلط الأوراق، و أجج فكرة التدافع، وحرف مسارها في كثير من الممارسات، وأصبح نبذ الأشخاص مقدما على حوار الأفكار، وهذا أمر مألوف في مجتمع حدّي لم يتعوّد على ثقافة التعدد والاختلاف، والزمن كفيل بترويض الفريقين، وتخفيف حدة الصراع، مع بروز فكرة جديدة تأخذ أفضل ما لدى طرفي الصراع. كانت فكرة التدين هي الفكرة الغالبة في هذا التدافع، لأن المجتمع من جهة متدين بطبعه، فهو نقيّ الفطرة من جهة، ويؤمن بأن العداء للتدين موقف غير منهجي، وإنما هو موقف مثقف مولع بتقليد الثقافة الغالبة، وعاجز عن فهم الواقع، ومراجعة الأفكار، والقدرة على الإبداع، و واهم بأن النهوض الحضاري يمكن أن يصنعه الزبون وليس التلميذ. ومن جهة أخرى لأن أنصار فكرة التديّن اهتموا بتربية النشء، واهتم أنصار النهوض الحضاري بحوار النخب، و تضخيم المنجزات الفكرية التي لا يقرأها إلا أصحابها . وأسفر قانون التدافع عن غلبة فكرة التدين، فاكتسح المتدينون المشهد الثقافي، وقطفوا ثمار الثورات العربية . وهذا الموقف نتيجة تدافع ثقافي تعلمه المتدينون من أصحاب فكرة النهوض الحضاري التي حاربت الدين والتدين وزجت بهم في غياهب السجون، وهو ما اختصره الشيخ على الطنطاوي في مذكراته عندما قال : كنت أنا وميشيل عفلق معلمين في مدرسة واحدة، فاهتم ميشيل ببناء العقول، وانشغلت بتأليف الكتب، واستولى على بلدين، وأنا أدبج المقالات في الصحف. لقد جاء تلاميذ الطنطاوي فعلموا أن الرياح لا يمكن تغيير اتجاهها فغيروا اتجاه الشراع، وها هم على أبواب دمشق ليقتلعوا ديناصورات البعث وعصابات أنيسة. [email protected]